الذريعة والحقيقة: قصة أزمتين

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 15 أغسطس 2018 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

لا يمكن تلخيص دواعى الأزمة التى تفاقمت بين الرياض وأوتاوا فى الاحتجاج الكندى على اعتقال ناشطات سعوديات فى مجال الدفاع عن حقوق المرأة.
ولا يمكن تفسير الأزمة التى تكاد تخنق الاقتصاد التركى بالعقوبات الأمريكية على خلفية توقيف قس متهم بالتجسس ودعم الإرهاب.
فى الأزمتين أجواء عصبية فوق طاقة الأسباب المباشرة.
كان يمكن تطويقهما بالوسائل الدبلوماسية والمقايضات المعتادة بين الدول دون كلفة سياسية كبيرة.
لماذا خرجت الأزمتان عن أى سيطرة؟
ما الأسباب الحقيقية والرسائل الضمنية فى كلتيهما؟
وإلى أى حد تؤثر التداعيات المحتملة فى حسابات الإقليم وتحالفاته وموازينه السياسية؟
الأولى ــ كاشفة لمأزق السياسات على جبهات عدة من سوريا واليمن إلى مستقبل الحكم وطبيعته.
والثانية ــ منذرة بأوضاع عدم استقرار قد تطول فى دولة جوهرية بالإقليم تؤثر بالضرورة على تحالفاتها ومستقبل حكمها.
لم يكن هناك ما يستدعى تصعيد الأزمة بين الرياض وأوتاوا إلى تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسى وتجميد التعاملات التجارية والاستثمارية وإلغاء برامج التبادل التعليمى والمنح الدراسية لأكثر من (١٥) ألف طالب وسحب المرضى من المستشفيات الكندية وإيقاف رحلات الطيران.
هذه لم تكن المرة الأولى التى تنتقد فيه دولة غربية سجل حقوق الإنسان والحريات العامة فى السعودية.
قبل فترة دخلت السعودية أزمتين مماثلتين مع السويد وألمانيا على خلفية انتقادات لسجلها الحقوقى دون أن تصل إلى هذه الدرجة من التصعيد.
كما أن إدانات عديدة فى السجل نفسه تضمنتها بيانات لوزارة الخارجية الأمريكية والاتحاد الأوروبى والمجلس الأممى لحقوق الإنسان دون أن تلحقها أزمات بهذا الحجم.
لماذا كندا؟
قد يقال إن سفارتها تجاوزت حدود أدوارها الدبلوماسية بمخاطبة الرأى العام الداخلى فى السعودية عبر تغريدة على تويتر تبدى قلقها إزاء اعتقال نشطاء فى المجتمع المدنى.
وقد يقال إن إعادة إنتاجها من وزارة الخارجية الكندية فى تغريدة أخرى كان استفزازيا خاصة أن لغتها بدت أقرب إلى الإملاء كطلب «الإفراج الفورى»، وهذا وضع محرج للسلطة السعودية أمام رأيها العام فى ظل أزمات متراكمة.
بقوة حقائق العصر فإن لقضية حقوق الإنسان مكانة خاصة لا يمكن إنكارها فى الأدبيات والمواثيق الدولية.
وبقوة المصالح فإن دولا غربية عديدة مستعدة أن تغض الطرف عن أى انتهاكات.
ما أرادته السعودية ــ بالضبط ــ من تصعيد الأزمة مع كندا أن تضع خطا أحمر فى الهواء ــ المصالح المالية مقابل عدم الانتقاد.
كانت هذه رسالة للآخرين منخفضة التكاليف السياسية.
الأمريكيون والبريطانيون لم يدعموا الموقف الكندى وتركوا أوتاوا وحيدة تقريبا.. وأقصى ما طلبه الاتحاد الأوروبى الالتزام بالتحقيقات الشفافة والعادلة مع الموقوفين السعوديين.
المصالح المالية حددت نطاق الحركة الأوروبية فيما بدا البيت الأبيض فى وضع ارتياح شبه معلن على خلفية مشاحناته مع الحكومة الكندية بشأن الموقف من الاتفاقيات التجارية الدولية.
الحكومة الكندية نفسها تطلب التهدئة مع الرياض خشية خسارة صفقة بقيمة (١٥) مليار دولار تبيع بمقتضاها مركبات مدرعة لقمع التظاهرات السلمية.
هل هذه ازدواجية معايير؟
باليقين: نعم.
رغم ذلك كله كانت الخسارة السعودية فادحة فى الميديا الغربية والمنظمات الحقوقية والأوساط الأكاديمية، وهذه لا يستهان بها فى حسابات السياسة والصور.
كادت تتفوض صورة ولى العهد «محمد بن سلمان» كرجل إصلاحى تبنى قضية قيادة المرأة للسيارات وسمح بحفلات موسيقية وسينمائية فى مجتمع مغلق.
لاحقته صورة المستبد الذى يعتقل الناشطات اللاتى يطالبن بحقوق المرأة. ويصادر حريات التعبير رغم اتساع الطبقة الوسطى السعودية التى حصل بعض أبنائها على تعليم متقدم فى الجامعات الغربية.
بتقديرات حقوقية دولية فإن الهدف السعودى من التصعيد المبالغ فيه مع كندا وقف الضغوط عليها لإجراء تحقيقات نزيهة وشفافة وعادلة فى جرائم الحرب باليمن وآخرها مقتل (٢٩) طفلا على الأقل فى قصف جوى استهدف حافلة.
هكذا فإن ذرائع الأزمة لا تلخصها ولا تفى بحقائقها الأساسية.
الأمر نفسه فى الأزمة التركية.
تكاد الأعصاب أن تتلف تماما تحت ضغط انهيار عملتها الوطنية، التى خسرت نصف قيمتها فى غضون نصف عام.
لا يعقل ــ بأى منطق طبيعى ــ إرجاع ذلك الانهيار إلى تدوينة كتبها الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» عن توجهه لمضاعفة الرسوم الجمركية على الصادرات التركية من الحديد والألومنيوم.
مشاكل الاقتصاد التركى بنيوية وسياساته المالية أوصلته إلى نقطة الانهيار.
العقوبات الأمريكية كاشفة وليست منشئة للأزمة.
الاقتصاد الذى يهتز بتدوينة فهو عليل ومنكشف.
للأزمة مقدمات من بينها الارتفاع المضطرد فى العجز التجارى وزيادة نسب التضخم والنظرة السلبية لوكالات التصنيف الائتمانى للمصارف التركية وسوء الأداء الذى يتحمله الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» وحده بالنظر إلى حجم تدخله المفرط فى إدارة السياستين الاقتصادية والنقدية وتغوله على الحياة العامة ومصادرة التنوع فيها.
بافتراض أن تركيا لم تصعد الأزمة مع البيت الأبيض لم يكن ممكنا تجنب انهيار الليرة ودخول اقتصادها النفق المعتم.
ذلك لا ينفى تداخل السياسى مع الاقتصادى فى رسم المشهد التركى المستجد.
لم يكن الإفراج عن القس الأمريكى الموقوف صلب الأزمة بين «ترامب» و«أردوغان» لكنها الذريعة التى استخدمت لتأديبه وتطويعه لمقتضى ما هو مطلوب منه.
كان أول ما هو مطلوب أن تنضم أنقرة، أحد أهم الشركاء التجاريين لطهران، إلى جهود الإدارة الأمريكية فى إحكام الحصار الاقتصادى عليها بما يساعد على خفض صادراتها النفطية وإرباك ناتجها المحلى الإجمالى على المديين المنظور والمتوسط.
الرهان الأمريكى على الحصار بسلاح العقوبات هو تفجير إيران من الداخل، أو دفعها بالضغوط إلى تقديم تنازلات فى ملفى مشروعها الصاروخى الباليستى وأدوارها الإقليمية المتزايدة وفق ما تطلبه وتلح عليه إسرائيل.
هذا يستحيل أن تقبله إيران فقبوله إعلان هزيمة مجانية.
كما يصعب على تركيا قطع صلاتها الإيرانية بالنظر إلى شكوكها العميقة فى نوايا وتوجهات إدارة «ترامب» بشأن القضية الكردية ومستقبلها كدولة موحدة.
وثانى ما هو مطلوب خفض مستوى التحالفات الميدانية مع روسيا وإيران فى الملف السورى.
وهذه مسألة حساسة أخرى فالدور الأمريكى متراجع فى الإقليم وكل ما يعنيه إسرائيل وأمن إسرائيل وحسابات إسرائيل ولا شىء آخر.
بحقائق القوة بدأت إسرائيل نفسها تنسج علاقات تفاهم مع اللاعب الروسى ولا يتصور عاقل أن تنسحب تركيا من مثل هذه العلاقة هكذا دون بديل.
وثالث ما هو مطلوب وقف شراء منظومة «إس ــ ٤٠٠» الروسية الصاروخية، ووصلت الضغوط إلى حد إلغاء صفقات سلاح أمريكية متفق عليها مع أنقرة.
هناك سيناريوهان محتملان.
أولهما ــ أن يحاول «أردوغان» البحث عن شركاء تجاريين جدد مثل الروس والصينيين وبناء تحالف أقوى مع طهران تجاريا وعسكريا.
وذلك سوف يكون انقلابا استراتيجيا فى الإقليم ومسارح صراعاته.
وثانيهما ــ أن يعود تحت ضغط الأزمة إلى بيت الطاعة حيث المصالح التقليدية المشتركة، فتركيا جزء من استراتيجية «الناتو» فى مواجهة الدب الروسى، وخسارتها لا تعوض، وتضرر الاقتصادات الأوروبية مخاوفه ماثلة.
بقدر ما تكشفه الأزمتان من حقائق مستجدة فإن صورة المستقبل بأكثر أقاليم العالم اشتعالا بالنيران قابلة لكل السيناريوهات والاحتمالات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved