جمال حمدان وأنشودة عبقرية المكان

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الإثنين 15 أغسطس 2022 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا بتاريخ 12 أغسطس للكاتب محمد حلمى عبدالوهاب، تناول فيه عناصر الفكرة الرئيسية لفلسفة جمال حمدان الجغرافية... نعرض من المقال ما يلى.
يتربَع المفكرُ المصرىُ الرَاحل جمال حمدان (1928 ــ 1993) على عرش قلَة من المفكرين المصريين الذين اتسموا بعمق التَحليل، وشجاعة الطَرح، وعبقرية المزْج ما بين الجغرافيا وفروع المعرفة الإنسانية كافَة: تاريخا وفلسفة، سياسة وثقافة، دينا واجتماعا. وتبدو عبقرية المَزْج هذه أسمى ما تكون فى فكرته الجوهرية: عبقرية المكان، التى تُعَدُ بمثابة ركيزةٍ أساسية فى مشروعه الفكرى العملاق. فقد كان حمدان مهموما بتخصُصه الأكاديمى، ما دفعه لأن ينتقل به من حيز الدراسات التَقليدية المَنْزَع إلى حيز «الجغرافيا السياسية» أو «الجغرافيا المُقارنة» على وجه الخصوص.
ينطلق حمدان من التَأكيد على ضرورة «أن يخوض الجغرافىُ فى الإلمام بكل التكنيك العِلمى الجديد؛ يأخذ عنه فكرة واضحة، لا ليتحوَل إلى مُختصٍ فيه، بل مجرَد مُتلصصٍ عليه! ولأنَ الجغرافيا هى فلسفةُ المكان، فلسفةُ الأرض، فلسفةُ العالَم، فإنَنا ندعو إلى بلُوغ الحد الأقصـى من العِلم والعلمية فى الجغرافيا؛ لتواكِبَ عصـر العِلم والتكنولوجيا الفائقة. وفى الوقت نفسه إلى قلب الجغرافيا وموطِنها النهائى، وهو فلسفة المكان؛ أى بلوغ الحد الأقصى من المعرفة العلمية، مع الحد الأقصى من المعرفة الفلسفية، وتحقيق ومواءمة هذه الثنائية هى جوهر فن الجغرافيا».
الجغرافيا، بهذا المعنى إذن، هى التى تُقدِم صورة كاملة عن العالَم للمُتعلِم والمُثقَف أكثر ممَا يدعوه حمدان بـ«الميكانيزم» الذى هو ألصق بالعلوم الأولية؛ كالنبات والحيوان والجيولوجيا...إلخ. وعلى الرغم من إقراره أنَ الجغرافيا قد لا تتربَع على قمَة العلوم؛ فإنَ ذلك لم يَمنعه من التأكيد على أنَها تتربَع على قمَة الثقافة! بل إنَها «أعلى مراحل الثقافة، وهى علمُ الثقافة الأساسى»، ومن دونها لا يكتسبُ الإنسانُ صفةَ المثقَف «مهما حاز من مَعارِف».
فالجغرافيا، فى مفهوم حمدان، لا تقتصر على «عِلم تضاريس الأرض» فحسب، وإنما يُقْصَدُ بها الـGeoــHistoire، أو «الجغراسيا»! إنها بمعنى آخر: كلُ ما تراه العَين خارج البيت أو الجدران. فكل إنسان ــ جغرافيا كان أم غير جغرافى ــ يرى الجغرافيا حيثما كان وأينما تحرَك، بل إنَه يتحرَكُ فيها، فلا مهرب له منها البتة.
من ضمن هذا الفَهم الحمدانى الخاص لمنطق الجغرافيا وطرائق اشتغالها فى التَاريخ، وَضَعَ حمدان مَلحمته العلمية الكبرى: «شخصية مصر: دراسة فى عبقرية المكان»، التى صدرت فى أربعة أجزاء على ما يقرب من مدى عشـر سنوات (1975 ــ 1984)، ووَصَلَ مجموع عدد صفحاتها قرابة أربعة آلاف صفحة من القطع الكبير. ففى هذا العمل العلمى الرَصين يَدرس حمدان شخصية مصر فى ثلاثة أجزاء رئيسية هى: الشَخصية الطَبيعية، والبشرية، والتَكاملية. وفى كل جانب من هذه الجوانب الثلاثة يَعرض لعناصر التَفرُد والتَميُز فى «شخصية مصر»، بفضل ما تحتويه من عوامل: حضارية، وإنسانية، وطبيعية، تَجعل من مصر مكانا متفردا يختلف عن كل ما يحيط بها. ففى الجزء الأول: «شخصية مصر الطَبيعية» يعرض لنا ما يتعلَق بالجيولوجيا والجغرافيا المصرية والصَحراوات المصرية التى تُمثل النسبة الأكبر فى مساحتها. وفى طبيعة الحال، أفرد حمدان جزءا خاصا بوادى النيل الذى يُمثل شريان الحياة فيها.
أمَا الجزء الثانى: «شخصية مصر البشرية»؛ فيَذكر فيه ملامح التَجانُس الطَبيعى، والمادى، والحضارى، والبشرى، والعمرانى للشَخصية المصرية، وكذلك الحضارة المصرية القديمة والحديثة منذ العصر الفرعونى حتَى يوليو 1952، ومراحل تطوُر الحضارة المصرية على مر العصور. وفى الجزء الثالث: «شخصية مصر التَكاملية»، يعرض الجوانب الاقتصادية فى الشَخصية المصرية، بخاصَة الزراعة التى كانت بمثابة ركيزتها الأولى. كما يعرض لتطوُر الصناعة والثروة المعدنية فيها. أيضا يتضمن حديثه حول «الشَخصية التَكاملية» خارطة المُجتمع المصرى، وشبكة العلاقات المصرية ــ العربية ما بين الوطنية المصرية والقومية العربية.

مَوقع مصر العقدى البُؤرى
فضلا عن كونها المَعْبَر الرَئيس لقارة إفريقيا من جهة الشمال، تكتسب «عبقرية المكان» طريقَين لا يقلَان أهمية وخطرا ــ فى رأى حمدان ــ يفتحان غرب القارَة، والقارَة كلها، أمام مصر: فشمالا هناك طريق الهلال الخصيب بكل ثقله وتفرُعاته وروافده المؤدية إلى قلب القارَة. وجنوبا هناك طريق غرب الجزيرة العربية الذى يُطوقها جميعا حتَى الخليج ويُفضى بعد ذلك إلى جنوب القارَة. وبهذا وذاك تكون مصر قد التقت بالطبيعة فى أربعة خطوط حركةٍ وطُرق اقترابٍ برية تَجعل منها ابتداء مَوقعا عقديا بُؤريا من الدَرجة الأولى.
ولا ينسى حمدان أن يضيف إلى «الموقع الطبيعى» بُعدا آخر لا يقلُ خطورة ولا أهمية؛ ويتمثَل فى «البُعد البشرى من زاوية العمران العالَمى»، ما يُضاعِف من قيمة موقع مصر الاستراتيجى بحُكم الطبيعة. فمصر كما تُعدُ حَجَرَ الزَاوية بين القارات والبحار، تتوسَط أيضا «القلبَ المعمور والفعَال من العالَم القديم»؛ ذلك الذى يترامَى كقاطعٍ يمتدُ من الموسميات فى جنوب شرق آسيا حتَى المُعتدلات فى غرب أوروبا.
على أنَ مَوقعا متميزا كهذا ــ سواء بحُكم الطبيعة أم بحُكم العمران البشرى ــ له خطورته أيضا؛ وهو ما عبَر عنه حمدان بلفظة «تذبْذُب المَوقع»، ومفادها: أنَ المَوقع ــ كمحصَلة جغرافية لشبكةٍ منظورةٍ وغير منظورةٍ من العلائق والقيَم المكانية والوضعيات الإقليمية ــ لا يُمكن أن يكون زمامُه فى يده مباشرة؛ ولذلك لا يُمكن أن يكون خاصية أو ثروة مضمونة تماما. إنَه بطبيعته عبارة عن «مُخاطرة جغرافية». وعلى الرُغم من ذلك، ففى حالة مصر بالذَات لا يُمكننا فهم كيانها، أو تاريخها، فَهما صحيحا خارج إطار «المَوقع» ومن دون الإشارة إليه. فمصر موضِعا «دولة نَهَر»، وموقِعا «دولة بَرْزَخ»، ولو لم يكُن النيل ــ فرَضا ــ لفرَض الموقعُ نفسَه يقينا. وكلٌ من «المَوقِع» و«المَوضِع» يُضفى ويعكس من وزنه على الآخر، والقيمة الحقيقية لكلٍ منهما إنَما تتحقَق بفضل الآخر. فضلا عن أنَ تطوُر مصر ــ إن قوَة ورخاء، أو ضعفا وفقرا ــ يرتبط فى إيقاعه بإيقاع العلاقة ما بين ذبْذبات «المَوقع» وذبْذبات «المَوضِع». فعصورها الذَهبية هى تلك التى اجتمع فيها الحدُ الأقصى من مَوارد المَوقِع ومَوارِد المَوضِع، وعصور تخلُفها هى ما اجتمعَ عليها الحدُ الأدنى منهما، بينما عصورها المتوسطة هى عادة تلك التى يلتقى فيها الحدُ الأقصى من أحدهما بالحد الأدنى من الآخر. وبحسب حمدان، فإنَ أكبر مَظاهر تقصير مصر تاريخيا، إنَما يتجسَد فى إهمالها «المَوقِع» نسبيا، وتغليبها لجاذبية «المَوضِع» على جاذبية المَوقِع التى لا تقل قوَة وإغراء. ومن ثمَ، لم يرتفع الاستثمار التَاريخى إلى مستوى ذلك المَوقع الجغرافى. وعلى الرغم من أنَ الموقع كان دائما عنصرا محقَقا فى قوَة مصر وثرائها، لكنَها ركَزت أساسا على «المَوضِع» والزراعة والإنتاج، أكثر بكثير من تركيزها على «الموقع» والتجارة والمُبادلات.
فى الأخير، إنَ القيمة العِلمية لعمل جمال حمدان فى إطار التَأليف العربى المعاصر، أشبه بطائر العنقاء، فقد ظَهَرَ هذا العالِم المُتميِز فى آفاق الفكر العربى كطائر العنقاء الأسطورى، الذى تحكى قصص الأقدمين أنَ مَوطنه الأصلى كان صحراء العرب؛ وتروى أنَ طائرا واحدا منه يظهر كل مئات السنين، وإنَه يعلو فى الآفاق محلقا بأجنحته العريضة المهيبة، فارِدا ريشه على نحوٍ بديعٍ وباهر. ولكن عندما يحين الأوان، فإنَ هذا الطَائر الأسطورى الوحيد يُقيم لنفسه تلا من النَار ويهبط من الأجواء، ينتصب واقفا فى كبرياء وسط لَهيبه، لكنَه لا يتفحَم ولا يتحوَل إلى رماد، وإنَما ينبعث من قلب النَار مُستعدا لحياة جديدة، ومُنتشيا بشبابِ عُمرٍ جديد.
لقد كان جمال حمدان «عنقاء» مصريا وقوميا عظيما، حوَطته ألسنة النَار ذات صباح فى شهر إبريل 1993، لكنَ الأحلام العظيمة لا تتفحَم ولا تتحوَل إلى رماد، وإنَما تنهض بمعجزة من معجزات البعْث من وسط الحريق مجدِدة حياتها وشبابها، ناشرة ضياءها وإلهامها، فاتحة أجنحتها القوية، ومحلقة إلى أعالى السَماء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved