َََالعَرَقُ.. والعِرْقُ

صادق عبدالعال
صادق عبدالعال

آخر تحديث: الثلاثاء 15 سبتمبر 2020 - 6:25 م بتوقيت القاهرة

مُجَرَّدُ كِتَابَةِ العُنْوَانِ بالتَّشْكيلِ يَجْعَلُنِى أَتَصَبَّبُ «العَرَقَ» خَجَلًَا مِن شِدَةِ دَهْشَتِى بِفَيْضِ لُغَةِ الوَحْى وَبِغَزَارَةِ لُغَةِ القُرْآنِ.. ثَراءٌ لُغَوِىٌّ فِى تَشْكِيلِهَا وتَنْوينِهَا، وَمِن تَشْكِيلاتِهَا وتَنْوِيهَاتِهَا، لغَةٌ غَنِيَةٌ بِاِشْتِقَاقاتِهَا.. فَلَمْ يُحَالِفْنِى الحَظُّ بِكُلِ أَسَفٍ بِالتَّعَرُّفِ عَلَيْهَا طَوَالَ الرُبْعِ قَرنٍ الأَوَل مِن عُمْرِى، وَذَلِكَ بِجَانِبِ لُغَةِ مَدْرَسَتِى الفَرَنسِيَةِ وَلُغَةِ دِرَاسَاتِى الطِبِيَةِ الإنجِليزيَةِ.. فِى حِينِ أَنَهُ، لَحْظَةَ أَن شَرُفْتُ بالعَمَلِ فِى مَكْتَبِ السيِدِ وزيرِ الصِحَةِ الأسبقِ ومُمَارَسَةِ العَمَلِ التَوْعَوِىِّ الصِحِىِّ بِاللُغَةِ العَرَبِيَةِ، اِلْتَزَمْتُ بِكَدِّى وكِفَاحى، أى «بِعَرَق» جَبِينى، الاِجْتِهَادَ بِتَجْويدِهَا طَوَالِ الرُبْعِ قَرنٍ الثَانِى مِن العُمْرِ، أُسْوَةً بِبَاقِى لُغَاتِ «العِرْقِ» الغَربِى الآخرِ.
بَعِيدٌ تَمَامَ البُعْدِ عَن التَّعْرِيفِ الاجْتِمَاعِىِّ / السِيَاسيِّ لِلْعَقْلِيَاتِ العُنْصُرِيَةِ والتَمْيِيزِ العِرْقِيِ المُعَاصَرِ، فَإِنَّ اسْتِخْدَامَ مَفهُومِ «العِرْق» فِى تَصْنيفِ الكائِنِ البَشَرىِّ لِمَجْمُوعَاتٍ «عِرْقِيَةٍ» أَو الأَعْرَاقِ، كَانَ فِى بِدَايَةِ الأَمْرِ للإِشَارَةِ إلى المُتَكَلِمِينَ لُغَةً مُشْتَرَكَةً وَللدَلَالَةِ عَلَى الانْتِمَاءِ لِأُمَةٍ وَاحِدَةٍ.. إِلاَ بِحُلُولِ القَرْنِ السَابِع عَشر فِى عَصْرِ النَهْضَةِ، أَصْبَحَ مَفهُومُ «العِرْقُ» يُشيرُ إِلَى السِّمَاتِ الظَّاهِرِيَةِ الجَسَدِيَةِ.. وَبَدْءا مِنَ القَرْنِ التَاسِع عَشر، اُسْتُخْدِمَ مَفهُومُ «العِرْقِ» لِلْدَلَالَةِ عَلَى مَجْمُوعَاتٍ بَشَرِيَةٍ مُتَبَايِنَةٍ وِرَاثِيا، مُسْتَنِدا عَلَى عِلْمِ البَيُولُوجيَا وَدِرَاسَةِ الحَيَاةِ، وَكَيْفِيَةِ تَفَاعُلِ الكَائِنَاتِ الحَيَّةِ البَشَرِيَةِ مَعَ بَعْضِهَا البَعْضِ، وَمَعَ البِيئَةِ المُحيطَةِ حَوْلَهُم.
وَمِن فَضْلِ وَنِعَمِ اللهِ، تَتَمَثَلُ مُنْذُ الخَلِيقَةِ، أصالَةُ وَ«عَرَاقَةُ» الكَائِنِ البَشَرىِّ فِى رَوعَةِ الاِسْتِجَابَةِ الفِطْرِيَةِ لِكيَانِهِ مَعَ البِيئَةِ المُحيطَةِ بِهِ، وَفِى سِحْرِ التَفَاعُلِ الفِسْيُولوجىِّ (تَفَاعُلُ وَظَائِفُ أَعْضَاءِ جِسْمِهِ الحَيَّةِ) مَعَ المُنَاخِ المُحِيطِ حَولَهُ.. فَهُنَاكَ آلِيَّةٌ تَنْظِيمِيَةٌ حَرَارِيَةٌ إلَهِيَةٌ، تَجْعَلَهُ يَتَحَمَلُ فُرُوقُ ثَلاثَةِ دَرَجاتِ حَرارَةٍ مِئَوِيَةٍ مِن حَرَارَةِ جِسْمِهِ دُونَ أَىِّ اِخْتِلاَلٍ فِى وَظَائِفِ الأَعْضَاءِ، وَذَلِكَ حِينَ تَشْتَدُ دَرَجَةُ حَرَارَةِ الجَوِّ، سَوَاءٌ بِسَبَبِ الطَاقَةِ الشَمْسِيَةِ الهَائِلَةِ (فِى بَاطِنِ الشَمْسِ تَصِلُ إِلَى ٢٠ مِلْيُون دَرَجَةٍ مِئَوِيَةٍ)، أَو لَهيبِ بَاطِنِ الأَرْضِ (٥٠٠٠ دَرَجَةٍ مِئَوِيَةٍ)، أَو مَا سَبَّبَهُ هُوَ ذَاتُهُ مِن ظَاهِرَةِ الصَوْبَةِ الخَضْرَاءِ (وَبُلُوغِ تَركيزِ غَازِ ثَانِى أُكْسِيدِ الكَربُونِ بِالغُلَافِ الجَوِى ٢٥٣ جُزْءًا فِى المِليُونِ، زِيَادَةٌ قَدْرُهَا ٢٥٪ على مُستَوَى مَا قَبْلَ عَصْرِ الثَوْرَةِ الصِنَاعِيَةِ الأُولَى فِى القَرْنِ التَاسِع عَشْر!).
فَجِلْدُ الإِنْسَانِ يُسَاعِدُ، بِجَلَدٍ فَرِيدٍ مِن نَوعِهِ، عَلَى اسْتِدَامَةِ حِفْظِ دَرَجَةِ حَرَارَةِ الجِسْمِ الدَاخِلِيَةِ فِى مُعَدَلِهَا الطَبِيعِى (٣٦٫٥ ــ ٣٧٫٥ دَرَجَة مِئَوِيَة)، بِحَيْثُ لاَ تَتَخَطَى ٤١٫١ دَرَجَة مِئَوِيَة، فَإِن اِرْتَفَعَت مَا بَعْدَ ٤٢٫٢ دَرَجَة مِئَوِيَة سَينْتَجُ عَنْهَا عَوَاقِبُ عَقْلِيَةٌ وَخِيمَةٌ لِلْأَبَدِ.. كَمَا هُوَ يُعْتَبَرُ أَعْرَضَ عُضْوٍ بِالجِسمِ مِسَاحَةً، وَيُغَطِّى كُلَّ الأَعْضَاءِ (المِسَاحَةُ الإِجْمَالِيَةُ ٢٫٦م، وَالوَزْنُ نَحْوِ ٣كجم)، كَمَانعٍ يَحْمِى الجِسْمَ مِن شَتَى المَيْكروبَاتِ والكِيمَاوِيَاتِ، وكَعَازِلٍ للدُهنِيَاتِ والسَوائِلِ التِى تَعُومُ الأَنْسِجَةُ الدَاخِلِيَةُ فِيهَا ومَنْعِهَا مِنَ التَسَرُبِ خَارِجِ الجِسْمِ، وَكَحَامٍ مِن أَشِعَةِ الشَمْسِ الضَارَةِ، وَكَمُنْذِرٍ مُمْتَلِكا عِدَةِ نَهَايَاتِ أَعْصَابٍ حَسَاسَةٍ لِكُلِ مِنَ الحَوَاسِ الخَمْسِ (الحَرَارَةُ، البَرْدُ، اللَمْسُ، الضَغْطُ، الأَلَمُ)، وَكَمُبْرِزٍ لِشَخْصِيَةِ الإنْسَانِ مِن خِلاَلِ بَصَمَاتِ الأَيْدِى والقَدَمَيْنِ، وَكَصَانِعٍ لِڤِيتَامِين دَال بِمُشَارَكَةِ أَشِعَةِ الشَمْسِ الفَوْقِ البَنَفْسِجِيَةِ.. أَخِيرا وَلَيْسَ آخِرا، كَمُنَظِمٍ ــ عِنْدَ أَيٍ مِنَ «الأَعْرَاقِ» بِصَرْفِ النَظَرِ عَن أُصُولِهِم وَمَشَارِبِهِم، بِغَضِ النَظَرِ عَنْ لُونِ بَشْرَةِ البَشَر ــ يُسَاعِدُ عَلَى حِفْظِ درَجَةِ حَرَارَةِ الجِسمِ، بِفَضْلِ الغُدَدِ «العَرَقِيَةِ».
فِى يَومٍ بِهِ صَيْهَدٌ أَى شَدِيد الحَرَارَةِ، الإِنْسَانُ يُقَلِّدُ الجِلْدَ فِى آلِيَةِ تَرْطِيبِ مَدْخَلِ المَنْزِلِ أَو أَرْضِيَةِ المَتْجَرِ بِالمَاءِ مُسْتَعْمِلا فَقَط خرْطُوما وَاحِدًا.. بَيْنَمَا الجِلْدُ يَسْتَخدِمُ بِدُونِ تَوَقُفِ مُنْذُ خَلْقِ آدَمَ وَحَوَاءَ، مَا بَيْنَ ٢ ــ ٤ مِلْيُون خرْطُوم مُنْتَشِر فِيهِ، وَهِيَ أَنَابِيبُ الغُدَدِ العَرَقِيَةِ التِى لاَ يَتَعَدَى قُطْرُهَا ٠٫٠٤مِنَ المِلِيِمِتْرِ فَقَطْ.. وَوَفْقا لِتَقْدِيرَاتِ عُلَمَاءِ التَشْرِيحِ فَإِنَ رَاحَةَ اليَدِ وَبَاطِنَ القَدَمِ بِهِمَا مَا يَقْرُبُ مِنْ ٤٠٠ غُدَةٍ عَرَقِيَةٍ / سم٢، بَيْنَمَا ظَهْرُ اليَدِ وَجَبْهَةُ الوَجْهِ بها نَحْوَ ٢٠٠ غُدَةٍ عَرَقِيَةٍ / سم٢، لِيَقِلَّ بَعْدَهَا العَدَدُ نِسْبِيا فِى بَقِيَةِ الجِسْمِ مَاعَدَا المَنَاطِقَ المُشْعِرَةِ كالإِبِطِ والمَنَاطِقِ التَنَاسُلِيَةِ، حَيْثُ تَحْتَوِى عَلىَ غُدَدٍ عَرَقِيَةٍ مُخْتَلِفَةِ الوَظِيفَةِ.
فَمِن خِلاَلِ خَاصِيَةِ التَعَرُّقِ Sweating، سُوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فى أَثْنَاءِ الاسْتِيْقَاظِ أَو النَّوْمِ، تَسْتَجِيبُ الغُدَدُ العَرَقِيَةُ لَعَرَضِ اِرْتِفَاعِ دَرَجَةِ حَرَارَةِ الجِسْمِ المُفاجِئِ، لِلعَدِيدِ مِنَ الأَسْبَابِ مِنْهَا المناخِيَةُ الحَارَةُ، أَو الحَرَكِيَةُ البَدَنِيَةُ الرِيَاضِيَةُ، أَو العَصَبِيَةُ والشُعُورُ بالقَلَقِ والتَوُتُرِ والضَغْطِ النَفْسِىِّ والأَلَمِ، أَو الهُرْمُونِيَةُ فِى مَرْحَلَةِ انْقِطَاع الطَمْثِ، أَو الحُميَةُ المَرَضِيَةُ.. تَتَمَدَدُ بَعْدَهَا تِبَاعا الأَوْعِيَةُ الدَمَوِيَّةُ الصَغِيرَةُ والقَرِيبَةُ مِنَ سَطْحِ الجِلْدِ، لِإِفْرَازِ ــ فِى نِهَايَةِ الأَمرِ ــ سَائِلِ «العَرَقِ» عِبْرَ الأَنابِيبِ العَرَقِيَةِ، ثُمَ تَسْكُبُهُ مِنْ خِلاَلِ المَسَامِ العَرَقِيَةِ المُنْتَشِرَةِ عَلَى سَطْحِ الجِلْدِ، لِيَتَبَخَّرَ بَعْدَهَا، وَهُوَ مَا يَنْتُجُ عَنْهُ تَبْرِيدُ الجِسْمِ، وتَرْطِيبُ الجِلْدِ واِظْهَارُهُ بِمَظْهَرٍ حَيَوِىٍّ، وتَنْظيِفُ وَتطْهِيرُ الفَتَحَاتِ المَسَامِيَةِ مَعَ إِزَالَةِ السُّمُومِ مِن الجِسْمِ، وتَسْرِيع التَعَافِى سَوَاءٌ مِنْ شِدَةِ الإِجْهَادِ البَدَنِىِّ، والعَصَبِىِّ، أَو الهُرْمُونِىِّ بِتَخْفيِضِ مُسْتَوى هُرْمُون الكُورْتِيزُول بِالجِسْمِ أو إِفْرَاز العَرَقِ عَلَى سَطْحِ الجِلْدِ.
أَمَا الحَديِثُ عَن سَائِلِ «العَرَقِ» ذَاتِهِ، فَقَد ظُلِمَ وَنَالَ وَضْعا كَرِيها وَمَكْرُوها عِنْدَ الجَمِيعِ.. إِذْ تَتَعَجَّبُ أَلاَ رائحَة ولا لَونَ لَه مِنَ الأَسَاسِ، بَل كَمُّ وَنَوعُ الْمَيْكرُوبَاتِ القَاطِنَةِ بِسَطْحِ الجِلْدِ هُمَا سَبَبُ التَلَوُّثِ ذِى الرَائِحَةِ المُنَفِّرَةِ.. وَالعَرَقُ مُكَوَنٌ إِجْمَالا من ذَرَاتِ الماءِ (٩٩٪) وبَعْضُ الأَمْلاَحِ خاصة الصُودْيُوم والكُلُورَيْد (مُكَوِنَاتُ ملحُ الطَعَامِ) إِلَى جَانِبِ البُوتَاسِيوم وَالكَالْسِيُوم والفُسفُور، وغَيْرِها مِنَ البرُوتِينَات والجُلُوكُوز، إِضَافَةً لِمضَادِ المَيْكرُوبَاتِ الجِلْدِيَةِ وَيُلَقَّبُ دِرْمِيسِين (دِرْمَا بِاليُونَانِيَة تَعْنِى الجِلْد).. وَبَعِيدا عَنْ خَاصِيَةِ التَعَرُّقِ، تُفْرِزُ عَادَة ظَاهِرَةُ النَتْحِ عِنْدَ الإنْسَانِ Perspiration أَقَلَ كَمِيَةٍ مِنَ العَرَقِ المَفْقُودِ لِمَا يَقْرُبُ مِنْ ١،٢ لِتْر يَوْمِيا، بَيْنَمَا عِنْدَمَا تَعْمَلُ الغُدَدُ العَرَقِيَةُ بِأَقْصَى طَاقَتِهَا لِسَبَبٍ مَا، فَمُعَدَلُ التَعَرُقِ يَتَجَاوَزُ ثَلاَثَ لتْرَاتٍ فِى السَاعَةِ الوَاحِدَةِ.
الأَمْرُ الجَدِيرُ بِالإِشَارَةِ، أَنَ السَيْطَرةَ عَلَى ظَاهِرَةِ التَعَرُقِ الزَائِدِ والمسماةُ فَرْطُ التَعَرُقِ، قَدْ يَكُونُ لَهُ نَتَائِجُ مَحْدُودَةٌ عِنْدَمَا نَتَحَدَثُ عَنْ (الصِحَةِ العِلاَجِيَةِ) أَى عِلاَجُ فَقَطْ المُسَبِبَاتِ، والتِى قَد تَتَكَرَرُ أَو تَتَفَاقَمُ مَرة أُخْرَى فِى أَيِ لَحْظَةٍ.. عِلْمًا بِأَنَ فَرْطَ التَعَرُقِ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبٍ وِرَاِثِى / عَائِلى لاَ عِلاَجَ لَهُ، ثَانِيا لِأَسْبَابٍ طَبِيعِيَةٍ وَقْتُ الحَمْلِ وعِنْدَ سِنِ اليَأْسِ، ثَالِثا لِأَسْبَابٍ مَرَضِيَةٍ ــ عَلَى سَبِيلِ الذِكْرِ لَاَ الحَصْرِ ــ كَالبَدَانَةِ المُفْرِطَةِ، أَو السُكَّرِى مِن نَوبَاتِ اِنْخِفاضِ مُسْتَوى السُكَر فِى الدَم، أَو كَزِيَادَةِ نَشَاطُ الغُدَةِ الدَرَقِيَةِ، أَو النَوبَاتِ القَلْبِيَةِ، رابِعا لأَسْبَابٍ مُكْتَسَبَةٍ مِنْ تَنَاوُلِ أَو الانْسِحَابِ مِنْ بَعْضِ الأَدْوِيَةِ وَمَوَادِهَا الكِيمَاوِيَة، خَامِسا لأَسْبَابٍ نَفْسِيَةٍ أَو سُلُوكِيَةٍ / اجْتِمَاعِيَةٍ مِثْلَ الخَجَلِ والقَلَقِ المُفْرَطِ.. وَهُنَا يَكُوُنُ (للصِحَةِ الوِقَائِيَةِ) بِنَصَائِحِهَا الهاَمَةِ دَورٌ أَكْثَرُ فَاعِلِيَةٍ لِلْسَيْطَرَةِ عَلَى فَرْطِ التَعَرُقِ بَدْءا بِنَصِيحَةِ شُربِ ــ عَلَى الأَقَلِ ــ لِتْرَيْن مِنَ المَاءِ يَوْمِيا، أَو اِرْتِدَاءِ مَلاَبِسٍ قُطْنِيَةٍ فضْفَاضَةٍ، أَو مُدَاوَمَةِ الاِسْتِحْمَامِ، أَو اِسْتِخْدَامِ مُزِيلِ العَرَقِ لِلإِبِطِ أَو الكِريمَاتِ الوَاقِيَةِ عِنْدَ التَعَرُضِ لِلْشَمْسِ، إِلَخْ.. كُلُهَا نصَائِحُ ثَمِينَةٌ، لَكِنَّ تَأْثِيرَهَا مُؤَقَتٌ، وَهِىَ مَحْدُودَةٌ بمُدَةِ اِسْتِدَامَةِ الرِسَالَةِ، وَمُرْتَبِطَةٌ بِمَضْمُونِ الرِسَالَةِ بِالمِثْلِ..
ومِنْ ثَمِ، تَتَصَدَرُ دَوْما الصِحَةُ الاِسْتِبَاقِيَةُ PREEMPTIVE HEALTH الصَدَارَةَ فِى العِلاَجِ الجذْرِى لَحْظَةُ التَعَامُلِ مَعَ تِلْكَ الظَوَاهِرِ المَرَضِيَةِ، مِثْل ظَاهِرَةِ فَرْطِ التَعَرُّقِ.. فَالسَّبْقُ فِى التَدَخُلِ العِلاَجِى مِنْ المَنْبَعِ، والسَبْقُ بِدَرءِ الأَسْبَابِ المُمْرِضَةِ مِنْ مَصْدَرِ البُؤَرِ المَرَضِيَةِ قَبْلَ اسْتِفْحَالِهَا، لَيْسَ فَقَط هُوَ الحَلَّ الصِحِىَّ الأَوْفَرَ اِقْتِصَادِيا خَاصَة وَنَحْنُ دَوْلَةٌ نَامِيَةٌ، بَلْ إنَ مَرْدُودَ الصِحةِ الاِسْتِبَاقِيَةِ مُمْتَدٌ لِلْأَمَدِ العِلاَجِيِ الطَوِيلِ وَلَيْسَ لِلِأَجَلِ التَوْعَوِىِّ القَصيِرِ.. إِضَافَةً إِلَى أَنَّ الصِحةَ الاِسْتِبَاقِيَةَ مُخْتَصَةٌ بِالسَّبْقِ بِحِمايَةِ العَامَةِ مِنَ النَاسِ طوَالِ العَامِ قَبْلَ أَنْ يُصابُوا أَصْلا بِمَرَضٍ مَا، وَلَيْسَ الاِكْتِفَاءُ بِتَوْفِيرِ الإرْشَادِ الوُقائِىِّ لَهُم وَقْتَمَا تَنْتَشِرُ الأَوْبِئَةُ فَقَطْ، أَو بِتَطْبِيبِ فَقَطْ الأَعْرَاضِ المَرَضِيَةِ السَّطْحِيَةِ لِلْفَرْدِ دُونَ التَغْيِيرِ فِى نَمَطِ حَيَاتِهِ.. الصِحةُ الاِسْتِبَاقِيَةُ سِيَاسَةٌ صِحِيَةٌ شُمُولِيَةٌ لاَ تُوَجَّهُ فَقَطْ لِلمُوَاطِنِ، اللَبِنَةِ الأُولَى لِلطَفْرَةِ الاِقْتِصَادِيَةِ، حَسْبَمَا تَسْمَحُ الظٌرُوفُ السِيَاسِيَةُ / الاِقْتِصادِيَةُ بِذَلِكَ.
فَمَثَلًا، إِلَى جَانِبِ مَا بَادَرَت بِهِ مُؤَخَرًا وَزَارَةُ الصِحَة مَشْكُورةً فى أَكْبَرِ حَمْلَةٍ قَوْمِيَةٍ تَوْعَوِيَةٍ فِى تَارِيخِ مِصْرَ ضِمْنَ حَمْلَةِ الـ١٠٠ مِلْيُون صِحَةِ، وَرَوعَة تَزَامُنِهَا مَعَ مُبَادَرَةِ الكَشْفِ المُبَكِرِ عَنِ الأَمْراضِ غَيْرُ السَّارِيَةِ كَالبدَانَةُ، السُكَرِىُّ وَارتِفَاعُ ضَغْطِ الدَمِ، مَازِلْنَا ــ نَحْنُ أَطِبَاءَ صِحَةِ الأَطْفَالِ (وَلَيْسَ أَمْرَاض الأطْفَالِ فَقَطْ)، نَنْتَظِرُ الخَطْوَةَ الاسْتِبَاقِيَةَ الجَذْرِيَةَ مِنْ قِبَلِ الدَوْلَةِ المِصْرِيَةِ وَسُرْعَةَ اِصْدَارِ قُيُودٍ صَارِمَةٍ عَلَى إِعْلاَنَاتِ الأَطْعِمَةِ غَيْرِ الصِحِيَةِ فِى الشَوَارِعِ وَشَتَّى وَسَائِلِ الإِعْلامِ والتَوَاصُلِ الاِجْتِمَاعِىِّ، لِتُؤَثِرَ جذْرِيا عَلَى بَيْعِ وَتَسوِيقِ المَشْرُوبَاتِ والأَطعِمَةِ الغَنِيَةِ بِالدُهُونِ والسُكَرِ والملْحِ، المُعَلَبَةِ مِنْهَا والمُغَلَّفَةِ.. كَمَا نَرْتَقِبُ كَجُزْءٍ مِنْ اِسْتِرَاتِيجِيَةٍ اسْتِبَاقِيَةٍ وَاسِعَةٍ تَخُصُ السِمْنَةَ المُفْرَطةَ، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ عِلَةِ السُكَرِى واِرْتِفَاعِ ضَغْطِ الدَمِ، وَضْعَ قَوَاعِدَ صَارِمَةٍ لِفَطْمِ الشَعْبِ المِصْرِى عَنْ الأطْعِمَةِ والمَشْرُوبَاتِ الضَارَةِ بصِحَتِه، وَفَرْضِ ضَرَائِبَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الأَطْعِمَةِ، تُعْرَفُ فِى الدُوَلِ المُتَقَدِمَةِ بِـ«ضَرَائِبِ الخَطِيئَةِ Sin Taxes»، وكَذَلِكَ السَّبْقُ بِمَنْعِ ــ جذْرِيا ــ للعُرُوضِ التَرْوِيجِيَةِ لِتِلْكَ الأَطْعِمَةِ غَيْرِ الصِحِيَةِ، عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ (اِشْتِرِ وَاحِدا وَاَحْصُلْ عَلَى الآَخَرِ مَجَانا!).
مِثَالٌ آخَرُ هِام ٌ لِلصِحَةِ الاِسْتِبَاقِيَةِ، وَنَحْنُ نَمْضِى قُدُما نَحْوَ الخَريِفِ والشِتاءِ، وَعَلَى مَشَارِفِ سَنَةٍ دِرَاسِيَةٍ فَرِيدَةٍ مِن نَوْعِهَا نَتَرَقَبُ خِلاَلَهَا مَوْجَة وَبَائِيَة ثَانيَة للِڤَيْرُوسِ كُورُونَا، أَو لِأَيِ مَوْجَةٍ ڤَيْرُوسِيَةٍ مُوسِمِيَةٍ أُخْرَى، نَجْتَهِدُ جَمِيعا ــ شَعْبا وحُكُومَة ــ وَالاِلْتِزَامِ بِتَطبِيقِ الخُطُوَاتِ الاحْتِرازِيَةِ المَطْلُوبَةِ، لَكِن السُؤَالُ الذِى يَطْرَحُ نَفْسَهُ، هَلْ مِنْ مَانِعٍ ــ لِحِينِ حَثِ جِيلِ المُسْتَقْبَلِ لاِسْتِيعَابِ ثَقَافَةِ الرُقْعَةِ الخَضْرَاءِ والاِلْتِزَامِ بِعَادَةِ الاِشْرَافِ الشَخْصِى عَلى التَشْجِيرِ أَمَامَ المَنَازِلِ وَفِى المَدَارِسِ والجَامِعَاتِ والشَوَارِعِ ــ أَنْ نَسْبِقَ بِضَرُورَةِ تَوْفِيرِ مِظَلاَتٍ فِى سَاحَاتِ المَدَارِسِ، يَحْتَمِى تَحْتِهَا التَلاَمِيذُ سَواءٌ مِنْ أَشِعَةِ شَمْسِ الأَيَامِ الحَارَةِ، تَجَنُبا لِظَاهِرَةِ فَرْطِ التَعَرُقِ وَتَدَاعِيَاتِها المَرَضِيَةِ، أَوَ مِنْ أَمْطَارِ وَسِيُولِ الشِتَاءِ وَمَا قَد يُؤَهِلُ التِلْامِيذُ والطَلَبَةُ لِلْإِصَابَةِ بِشَتَى أَنْوَاعِ نَزَلاَتِ البَرْدِ، بِمَا فِيهَا بالطَبْعِ الڤَيْرُوسِيَة؟.. وَهَذَا المَثَلُ، ضَرُورَةُ السَبْقِ بِتَوْفيرِ المِظَلَةِ الوَاقِيَةِ، يَنْطَبِقُ أَيْضا عَلَى السَاحَاتِ الخَارِجِيَةِ لِلجامِعَاتِ، وَخَاصَة سَاحاتِ أَماكِنْ العِبَادَةِ، بَعْدَ اِمْتِدَادِ صُفُوفِ المُصَلِينَ خَارِجَهَا تَجَاوُبًا للتَبَاعُدِ الجَسَدِى المَطْلُوبِ.. وَفِى نَفْسِ السِيَاقِ، هَل مِن مَانِع السبْقُ بِتَوْفِيرِ الصَنَابِيرِ العَامَةِ بِالمَيَادِينِ وَالشَوَارِعِ الرَئِيسِِيَةِ لِتَجَنُبِ أَمْراَضِ الجَفَافِ عِنْدَ المُسِنِينَ وَكَذَا الأَطْفَالِ، الأَكْثَرُ عُرْضَةً لِظاهرةِ فَرْطِ التَعَرُقِ؟ وَلِنَفْسِ الغَرَضِ، هَل مِنْ مَانِعٍ لِلسَبْقِ صَيْفا بالاطِّلاَعِ جَيِدا عَلَى تَفَاصِيلِ النَشْرَةِ الجَوِيَةِ اليَومِيَةِ، بِقِرَاءَةِ نِسْبَةِ رُطُوبَةِ الجَوِ وَكَذَا مِقْيَاس أَشِعَةِ الشَمْسِ فَوْقِ البَنَفْسِجِيَةِ الضَارَةِ، وَعَدَمُ الاكْتِفَاءِ فَقَط بِدِرَايَةِ دَرَجَةُ الحَرَارَةِ صَيْفا وَاحْتِمَالِيَةِ سُقُوطِ الأَمْطَارِ شِتاء، وَذَلِكَ تَحَاشِيا لِلتَعَرُقِ المُفْرَطِ الذِى قَد يَكُونُ إِمَا مِن شِدَةِ الحَرَارَةِ: المَنَاخِ البِيئِى صَيْفا أَو.. المَناخِ الڤَيْرُوسِى شِتَاء؟
فِى النِهَايَةِ، إِن كَانَ مَسْقَطُ رَأْسِى مَدِينَةِ لَاهَاى بِهُولَنْدَا، وَإِن نَشَأْتُ وَشَبَبْتُ بَعْدَهَا مُرْتَكِزا عَلَى الدِرَاسَةِ بِاللُغَاتِ الأَجْنَبِيَةِ بِمِصْرَ، إلَّا أَنَّ «العِرْقَ الصَعِيدِى» لِعَشِيرَةِ وَالِدى ــ رَحْمَةُ اللهِ عَليْهِ ــ هُوَ «العِرْقُ» الغَالِبُ عِنْدِى.. تمَاما كَمَا أَثْبَتَ الزَمَنُ أَنَ الأَصْلَ المِصْرِى لِأَهْلِى هُوَ الغَلاَبُ دَاخِلِى، فَالنَاسُ مَعَادِنٌ وَ«العِرْقُ» دَسَاسٌ.. وإِنْ كَانَ أَدَبُ العِزَة كَعِرْقِ العِزْوَةِ، فَأَلْتَمِسُ العُذْرَ عَزيِزِى القَارِئَ فِى كِتَابَةِ هَذِهِ المَقَالَةِ بكَامِلِ التَشْكِيلِ والتَنْوِينِ.. بِالفِعْلِ نَطَفَ «العَرَقُ» بِبَاطِنُ يَدِى، وَلَوْلاَ تَشْدِيدُ وَتَصْميمُ «العِرْق الصَعِيدِى» بِى، لَمَا وُفِّقْتُ فِى تَيْسِيرِ ذلَكَ التَعْلِيلِ الصِحِى وَالتَفْسِيرِ الاستباقِى لِلصِحَةِ، فِى مَقَالَةٍ اسْتُهِلَتْ بِعِنْوَانٍ بَدَا لِى مُرْبِكًا وَمُغَيَّمًا، وَهَوَ بِلاَ شَكْلٍ ولاَ تَشْكيلٍ: (العرق.. والعرق!).

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved