المنافسة الاستراتيجية تمهيد لحرب عالمية أم لمنع نشوبها

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 15 سبتمبر 2021 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

قرأت بعض التقارير الرسمية والصحفية عن المكالمة الهاتفية التى أجراها الرئيسان الأمريكى بايدين والصينى شى. أكدت جميعها عبارة وردت على لسان الرئيس بايدين. قال بايدين إنه سوف يدير المنافسة الاستراتيجية بين أمريكا والصين بمسئولية. توقفت للحظات أمام كلمات بايدين لأنها تعلقت بأمر كنت أنا نفسى أناقشه مع زملائى وأصدقائى، وهو الظن فى أن مبادرة المنافسة الاستراتيجية كخطة يلتزم بممارستها وتنفيذها الطرف الأمريكى فى علاقته بالصين لأمر يحمل فى ثناياه مخاطر جمة. أول المخاطر وأهمها الاحتمال الكبير بالانزلاق خلال ممارسة المنافسة الاستراتيجية نحو قاع كالجحيم ألا وهو نشوب حرب عالمية جديدة. لا أشك للحظة واحدة أن وعد بايدين فى مكالمته الهاتفية بإدارة المنافسة الاستراتيجية مع الصين بمسئولية ورد بغرض درء الشك فى الاعتقاد السائد بأن المنافسة لابد وأنها ستجر الشعبين وشعوبا أخرى عديدة نحو حرب عالمية مدمرة.
هذه العبارة يكاد لا يخلو منها كتاب أو بحث مهم فى علوم الأمن والعلاقات الدولية كعلامة ثابتة فى علاقات بعضها بالبعض الآخر. الجديد فى استخدامها أنها صارت عنوانا لحالة علاقة استثنائية فى المستقبل بين دولتين أعظم بعد أن أضيف إليها صفة «الاستراتيجية». أم أن هذه الصفة أضيفت بنية خبيثة وهى أن يكون فى ذهن من أضافها اعتبارها وتجذيرها خطوة أساسية نحو تهيئة الناس فى الدولة أو الدولتين لحرب عظمى تنشب بينهما. هل نمحو هذا الظن من تفكيرنا باعتبار خطورة الأخطاء المحتملة فى التحليل القائم على النوايا، فالنوايا فى القلوب كما يقال، أى خافية عن المحلل وغالبية المشاركين فى صنع قرارات السياسة الخارجية. أعتقد أن بايدين ليس فى نيته تطوير المنافسة فى اتجاه نشوب حرب يجرى الاستعداد لشنها، ولكنى أميل للاعتقاد أنه واثق من أن مبادرة المنافسة الاستراتيجية التى صارت تعتنقها النخبة السياسية الأمريكية تحمل فى طياتها فرص ومخاطر انزلاقها نحو حرب شاملة.
وبالتالى أتصور أن عديدين من صانعى السياسة فى الحلف الغربى وفى شرق آسيا وأستراليا وربما الهند صاروا متنبهين إلى احتمال زيادة فى فرص نشوب حرب عالمية جديدة. السبب هو الدعوة المتكررة فى الأكاديميا والعسكرية الغربية الموجهة لقادة الرأى والسياسة فى الدول الصديقة والحليفة للانضمام إلى المبادرة. فى هذه الحالة قد يقرر القادة فى دول الغرب أو بعضهم على الأقل الانضمام للمبادرة بغرض العمل على كبح جماح قادة أمريكا المشهود لأسلافهم بالميل الشديد لإشعال حروب صغيرة وكبيرة، وإن أشعلوها فليكن الغرض الحد من الأخطاء الشنيعة التى عادة ما يرتكبها قادة أمريكا فى إدارة تلك الحروب ومسارات الصراع. آخر دليل لديهم وحافز لهم هذا الوضع الهزيل الذى خلفته الحرب فى أفغانستان والعراق نتيجة إدارة بالفعل سيئة. هؤلاء سوف يفضلون الانضمام للمبادرة لضمان حسن إدارتها، آخرون فى الحلف الغربى ذاته نراهم يستعدون بمبادرات يستقلون بها عن الإرادة الأمريكية، وهى الدعوات التى نسمعها تتردد فى قاعات اجتماع ومكاتب الاتحاد الأوروبى على سبيل المثال، ومنها الحديث الهامس فى دوائر النخبة السياسية الاسترالية عن استئناف العمل لإنتاج أسلحة نووية.
•••
تحت مظلة المنافسة الاستراتيجية، وهى متصاعدة بحكم صفتها الاستراتيجية، الاحتمال كبير أن تنشب حرب عالمية لو توفرت فرص بعينها. مثلا لو شعر أحد الطرفين بقصور نسبى فى القوة الشاملة إزاء قوة المنافس، حينئذ تزداد الأصوات فى مراكز السلطة والإعلام وربما فى مواقع تصنيع الأسلحة تدعو للإسراع بشن حرب قبل أن تزداد اتساعا الفجوة بين قوة هذه الدولة وتلك الدولة. أعرف أصدقاء فى مواقع هامة فى أوروبا قلقين من الحملة الكثيفة فى الإعلام الأمريكى التى تركز على مظاهر الضعف الأمريكى التى برزت عقب قرار انسحاب أمريكا من أفغانستان. يخشون أن تدعم هذه الحملة ساعد المتحفزين فى أمريكا لشن حرب فى أى مكان وأى وقت.
تحت هذه المظلة وبدافع منها وبتأثير الشعور الحقيقى أو الزائف بالتفوق النسبى فى مصادر القوة الشاملة وحال توازن القوة فى لحظة بعينها، لا أستبعد تماما أن تقرر النخبة الحاكمة فى أمريكا تكرار ما فعلته فور انتهاء الحرب الباردة حين شنت حربا وراء أخرى. انزلقت أمريكا فى هاوية حربين تحت الشعور بأنها تنفرد بقيادة العالم وأن لا دولة عظيمة أخرى تقف فى طريقها، وتحت الشعور بأن من حقها أن تنتقم لنفسها من إرهابيين اعتدوا على السيادة الأمريكية فى وقت ذروة سكرة أمريكا بالتميز والتفوق. كانت النتيجة مأساوية لأطراف عديدة. عشنا، ونحن لسنا من الأطراف المباشرة التى ذاقت ويلات الغزو الأمريكى، وما زلنا نعيش تداعيات مأساة وتعقيدات عمليات الخروج من الحربين، حرب أفغانستان وحرب العراق وعمليات الحرب العالمية ضد الإرهاب والانسحاب منها. هذه الأخيرة، وأقصد الانسحاب غير المنظم من الحرب العالمية ضد الإرهاب، تجرى بدون تنسيق يذكر مع حلفاء أمريكا الذين اشتركوا معها فى إشعال حرب دارت رحاها فى الشرق الأوسط قبل أن تعود إلى أفريقيا.
•••
من الفرص المتوفرة فعلا الانقسامات الرهيبة داخل الطبقة الحاكمة الأمريكية. تغيرت طبيعة الخلافات السياسية من خلافات حزبية مرنة تشهد عليها معظم النظم الديمقراطية إلى مواقف جامدة ومتصلبة ترفضها أسس ومبادئ الديمقراطية الليبرالية. من هنا بات واضحا أن الديمقراطية الأمريكية فى أزمة وعلامات تدهورها لم تعد خافية ومنها هجوم اليمينيين المتطرفين على مبنى الكابيتول رمز النظام، منها أيضا ولعله علامة أهم وأخطر وقوف الحزب الجمهورى حائلا ضد تدخل القضاء للتحقيق فى دوافع هذا الهجوم ومنع تكراره. لذلك يشكك أكاديميون وباحثون فى قيمة تصريح للرئيس بايدين جاء فيه أن المنافسة الاستراتيجية على قمة النظام الدولى ناشبة بالفعل بين الديمقراطية والأوتوقراطية. يتساءلون كيف تدير أمريكا منافسة استراتيجية مع كل من الصين وروسيا وعشرات الدول الأخرى بينما الديمقراطية الأمريكية هى نفسها فى حاجة لترميم وإصلاح وتحديث. هى، بوضعها الحالى، ليست فى وضع يسمح لها بالاشتباك فى مواجهة على هذا المستوى. الحال نفسه وإن بشكل مختلف موجود فى النظام الأوتوقراطى الصينى وموجود بالتأكيد وبصور صارخة فى الأوتوقراطية الروسية. الإصلاح الداخلى ضرورى إن شاءت دول القمة تفادى نشوب حرب عالمية.
لا جدال فى أن إدارة منافسة استراتيجية بين الولايات المتحدة كقوة عظمى انهكتها الحروب والصين كقوة تلهث على طريق الصعود نحو القمة تتطلب أولا إعادة ترتيب أولويات المنافسة. الوضع الداخلى يجب أن يكون البند الأول فى عملية إعادة ترتيب الأولويات. الداخل فى الحالتين، حالة أمريكا وحالة الصين وفى روسيا أيضا، يحتاج إلى إصلاحات جذرية فى الهياكل وفى الأيديولوجيا، عند ذاك يمكن للعالم أن يطمئن إلى أن المنافسة الاستراتيجية بين هذه القوى العظمى سوف تدار بمسئولية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved