فى المطبخ وجدتنى

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 15 سبتمبر 2021 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

فى المطبخ ألتقى بشخصيات كثيرة أحاورها بينما أقطع الخضار أو أحرك اللبن الزبادى فى قدرة على النار. أحاديث تبدأ عابرة حول الوصفات والتوابل ثم تأخذ تدريجيا منحى أكثر عمقا يدخلنى فى تفاصيل أكثر خصوصية وحميمية. أدخل المطبخ متشوقة للنميمة، محتاجة للقصص، أبحث بين صفحات دفاترى عن وصفات سجلتها فى أماكن بعيدة وأسمع التعليمات بأصوات أتذكرها وكأن أصحابها ما زالوا معى.
•••
فى المطبخ أجد كل ما أحب: الروائح والمكونات وسحر خلطها ورؤية عمليات الكيمياء تحولها إلى مزيج جديد، أرى الألوان وأسمع صوت الزيت فى المقلاة حين أرمى فيه خضارا أو مكسرات. فى المطبخ تصلنى أصوات الجيران وأغانى من راديو قريب. المطبخ مكان غير زمنى، فيه صوت أسمهان وأغنية لعمرو دياب يفصل بينهما صوت مذيعة أتساءل فجأة إن كانت من دمشق بسبب لهجتها. أم ترانى أعود إلى مطبخنا هناك وأسمع من بعيد حديث الصباح من راديو بيت الجيران أيضا؟
•••
فى المطبخ أغرف كل غضبى فى طبق العجن فأشعر بالكهرباء حين تنطلق من مركز التعليمات فى الجانب الأيمن من مخى عبر ذراعى إلى أصابعى فيتكون بينها العجين. أطلق العنان لحزنى فوق الصلصة التى أعدها لأطبخ فيها اللحمة بالكرز، وهو طبق بنظرى لا مثيل له فى المطبخ المشرقى من حيث تمازج النكهات. هناك، فوق الكرز أبكى مدنا لم أعد أزورها ووجوها لم أرها منذ سنوات وقد لا أراها فى حياتى. أتحرك فى مساحة أرفض أن يشاركنى فيها أفراد العائلة ولا أحب أن يساعدنى فيها أحد. هذا المطبخ لى، هنا أرقص على إيقاع سكينة حادة أقطع فيها البصل كما رأيت أحدهم يقطعه فى التلفزيون. هنا أعود طفلة تختبئ فى ثوب أمها بانتظار ملعقة من الحلوى سوف تعطينى إياها أمى بعد أن تنتهى من خفق الكعكة التى ستخبزها. فى المطبخ أشم رائحة جدتى فهى تستحم بصابون الغار بعد أن تنتهى من قلى الثوم.
•••
فى المطبخ أجدنى فى كل مراحل عمرى حتى أننى لا أفرق بين مطبخ وآخر فأنا رتبت المكان كما كان فى ذاكرتى، وأمى من قبلى رتبته كما فى ذاكرتها وها نحن سيدات ثلاث نقف أمام علب من التوابل نأخذ من هنا رشة ومن هنا مقدار ملعقة ونذوق ثلاثتنا من طرف الملعقة لنتأكد أن الطعم تماما كما فى الخيال.
•••
القدر السحرى على النار، فى داخله قصص من أحب ومن لا أحب، وجوه تظهر لى لتهمس من بين الدخان. هى أشباح المطبخ تحضرنى مع كل جلسة وكأننى أحضر أرواح من رحلوا وتركوا خلفهم وصفات وقصص حفظتها من كثرة تكرارها. أنا ساحرة المطبخ ألبس قبعة كبيرة تخفى وجهى وأدندن تعويذات مع كل رشة بهار أرميها فى الخليط فوق النار. هنا أرش القرفة أقسم أننى لن أتنازل عن سلطاتى فى المطبخ: القرفة ختم القسم. هنا أرش بعض ماء الزهر فى ذكرى صديقة أحبت زهر الليمون وطلبته فى كل مناسبة: زهر الليمون رائحة الصداقة. هنا مستكة تذوب ويذوب معها الحزن لكنه يترك بعض المرار فى الطعم: المستكة تذكر بما بعد الألم حين يخف الوجع وتبقى الذكرى.
•••
فى المطبخ أجدنى دوما حين أتوه، هنا أعيد ترتيب أجزائى مستخدمة زيت الزيتون أمسد به صداعى فيخف. فى المطبخ يعرف زوجى من حركتى إن كنت أبكى أم أضحك دون أن ينظر إلى وجهى فحركة يدى تشى بما فى داخلى. المطبخ هو كنبة المحلل النفسى بالنسبة لى، أفتح فيه قلبى وأحكى قصصى فوق رائحة الثوم أو النعناع. أصبحت بعض الطبخات مرتبطة بأحداث أو مزاجات فرحة هى أو حزينة، يعرف من حولى حاجتى لرائحة السكر المحروق يوم الفرح ورائحة القرفة عند الحنين. لم أعد تائهة فأنا فى ملعبى أبسط فيه قواعدى وسيطرتى الكاملة على ما حولى ولا أسمح بأى تدخل. تنهار محاولتى الدائمة بالمشاركة حين أدخل المطبخ فلا أشارك المساحة ولا العمل ولا أحاديثى الخاصة مع المكونات مع أحد.
•••
فى المطبخ وجدتنى طفلة وجدة، وجدتنى ألعب وأحكى، فى المطبخ وجدتنى طالبة وأم، عزباء ومتزوجة، أنا فى المطبخ كل الحالات معا وكأنى صورة ثلاثية الأبعاد تتداخل ألوانها فتظهر يافعة ومسنة فى الوقت ذاته، راقصة وثكلة، منهارة ومتماسكة، كل حالاتى هنا أمام القدرة السحرية أرمى فيها تعويذات وحكايات ويسألنى أطفالى مع من أتحدث فأقول مع نفسى، أنا وجدتنى هنا.

كاتبة سورية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved