تيار وطنى رئيسى من أجل إحياء مشروع الحداثة المصرى

نبيل مرقس
نبيل مرقس

آخر تحديث: السبت 15 أكتوبر 2011 - 10:30 ص بتوقيت القاهرة

«أحب بلادى .. ما أحب أن يكون الحاكم فيها تركيا ولا شركسيا.. كنت أحب أن يكون الرؤساء فى عموم مصالحها وإيراداتها من أبنائها، وما كنت أود أن يتولى الرئاسة فى كثير من المصالح أجنبيون من أجناس مختلفة، بل كنت أتحرق من الغيظ عندما أرى فيهم الجهلة بأعمال ما تولوه، وأرى جميعهم ينال مبالغ وافرة من إيرادات البلاد، ولا نسبة بينها وبين ما يناله الوطنيون الذين يؤدون عملا أكثر من أعمالهم وأجود.

 

كنت أتأسف عندما أرى استبدادا فى الحكام، وفقد نظام للإدارات، واختلالا فى سير كثير منها، وخللا فى المجالس المحلية، وضررا بليغا أصاب الأهالى من المجالس المختلطة، واندفاعا من الربويين على الفلاحين يأكلون أكبادهم، يدفعون لهم المائة ليأخذوها مائتين بعد ثمانية أشهر، وازدحاما من الأهالى على أبوابهم، لكن كنت أرجو وأسعى أن يجتهد أولو الأمر فى تخفيف هذه المصائب بالطرق المألوفة عند العقلاء وأرباب السياسة.

 

كنت أتأسف عندما أرى تناقصا فى المعارف وتغافلا عن تسهيل سبلها وتوسيع دائرتها وإتقان طرق تحصيلها، وكنت أطلب من الأغنياء أن يبذلوا من أموالهم ما يستطيعون لإنشاء المدارس وترويج العلوم، وألتمس من الحكام أن يوجهوا همهم لارتفاع شأن العلوم ونشرها بين العموم، وإصلاح طرق التعليم والتعلم.

 

كنت أنظر بعين الأسف إلى كثير من الصنائع التى كانت فى البلاد ويتعيش منها قسم عظيم من الناس، أهمل شأنها واندثرت، والورش التى أنشأها محمد على باشا بأموال البلاد تخربت، وكنت أتمنى أن تحيى الصناعة، خصوصا ما تحتاج إليه الزراعة، وأن يكون فى البلاد كثير من الماهرين فى الصناعات الجديدة كالآلات البخارية وغيرها، وكنت أرجو أن يهتم الحاكمون  بهذا الأمر، وسهل عليهم ذلك.

 

●●●

 

كنت أحب أن تكون بلادى حرة مستقلة، وحاكمها تحت قانون محترم لا تحت تصرف هوى نفسه وأهواء حاشيته، وأن يكون قادرا على حفظ القانون، ومحبا لرعيته شأن كل حاكم يحب الخير لنفسه وبلاده ويطلب بقاء الذكر بالآثار الثابتة لا بالألفاظ السيالة المنقضية بمجرد النطق، وكنت ألتمس الوصول إلى هذه الغاية أيضا بالتدابير والطرق السياسية.

 

هذه أفكارى وقواعد أعمالى وأقوالى، وكان يوافقنى عليها كثير من الناس، ومنهم بعض الأمراء القائمين فى الحكومة الآن بأهم الوظائف، وكان ينطق بموافقتها الجمهور الأعظم من أهالى البلاد. ثم تحرك إليها بالفعل أعيان البلاد وتبعهم عامتها، فكان الكل متحدين فى المقاصد، ولكن يوجد بينهم بعض اختلاف فى الوسائل، فمنهم من كان يفضل طرق الحكمة وسبل السياسة، ومنهم من كانت تحمله الحدة على نيل المقصد فى أقرب وقت، فحالتى كانت بينهم: «الاتفاق فى المقاصد السابقة إذ لا يصح لمحب وطنه أن يخالف فى شىء منها وإلا كان غير مصرى».

 

هكذا رأى الشيخ الإمام محمد عبده من منفاه فى بيروت أحوال مصر قرب نهاية القرن التاسع عشر بكل مظالمها واختلالاتها واستبداد الحكام يجثم فوق أنفاسها والتيار الوطنى الرئيسى لمثقفيها ومفكريها يستجمع قواه وينفض عنه روح الدعة والاستكانة ليخوض غمار ثورتين شعبيتين: ثورة عرابى (1881 ــ 1882) وثورة الجماهير بقيادة سعد زغلول فى 1919. كان الشيخ الإمام حاضرا (حتى بعد أن وافته المنية عام 1905) بفكره وعمله فى قلب الثوار وفى أحداث الثورتين. كان ينسج بأنامل وطنية مشروعا مصريا للحداثة ليقتحم بمصر أبواب العصر وليبنى لها موقعا يليق بتاريخها أعلى تلال المستقبل. كنت تراه فى صحن الأزهر الشريف وفى صالون الأميرة نازلى فاضل الثقافى وفى أروقة الجمعية الخيرية الإسلامية وفى صفوف الحزب الوطنى المصرى يجمع حوله جميع أطياف الأمة المصرية الناهضة.. سعد زغلول قائد ثورة 1919، محمد فريد زعيم الحزب الوطنى، قاسم أمين أحد رموز تحرير المرأة، أحمد لطفى السيد أبوالليبرالية المصرية وأول مدير للجامعة المصرية، على شعراوى ثالث الثلاثة الذين طلبوا استقلال مصر فى 13 نوفمبر 1918، حسن عاصم رئيس جمعية إحياء اللغة العربية، إبراهيم الهلباوى أمير البلاغة القضائية وأول نقيب للمحامين المصريين، على فخرى المستشار وعضو لجنة إصلاح القضاء، أحمد فتحى زغلول مترجم «سر تطور الأمم»، المؤرخ الكبير أحمد تيمور، طلعت حرب زعيم مصر الاقتصادى، على إبراهيم أبوالجراحة الحديثة، عبد العزيز جاويش لسان الحزب الوطنى وقلمه، الشيخ مصطفى العنانى وحفنى ناصف عالم اللغة العربية الكبير وكلاهما صحح أصول الطبعة الأولى للمصحف المتداول بمصر من سنة 1337 هجرية، الشاعر حافظ إبراهيم، الأديب مصطفى لطفى المنفلوطى، الشيخ محمد مصطفى المراغى الذى سيرأس المحكمة العليا الشرعية بمصر ويولى مشيخة الأزهر، الشيخ مصطفى عبدالرازق وزير الأوقاف فيما بعد وأول أستاذ مصرى للفلسفة الإسلامية فى الجامعة المصرية، وأخلص تلاميذه الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار ومكمل تفسيره للقرآن (تفسير المنار).

 

●●●

 

ونحن نرى فى ثورة 25 يناير بطليعتها الشابة وروحها الفتية وتدينها الإيجابى المقترن بإخلاصها لروح العصر وامتلاكها لوهج الحداثة نبعا جديدا يتيح لنا أن نستعيد البدايات الأولى لمشروع الحداثة المصرى الذى تأسس مع حكم دولة محمد على وتم نسج خيوطه الفكرية مع كتابات الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى وخطط على مبارك واكتملت ملامحه وقسماته المصرية مع ظهور التيار الوطنى الرئيسى الذى شارك فى صناعته الشيخ الإمام محمد عبده وصحبه الأجلاء الذين قدموا لنا ــ ومازالوا يقدمون ــ ذلك المزيج العبقرى الذى يجمع ما بين الإسلام والليبرالية وما بين التراث والحداثة.

 

وهكذا تدعونا ثورة 25 يناير إلى قراءة جديدة مستندة إلى دروس التاريخ  لواقعنا المختل والمضطرب، نعيد ترتيب أفكارنا وأولوياتنا، نخرج روح مصر من مكمنها بعد أن غمرتها المظالم وروّعها الاستبداد، ننسج معا مشروعا وطنيا للحداثة يعيد مصر ودولتها الوطنية المستقلة إلى حلبة السباق بعد أن أبعدتهما هزيمة يونيو 1967 إلى صفوف المتفرجين وأجواء المتقاعدين.

 

فلنصنع معا تيارنا الوطنى الرئيسى الذى يعيدنا جميعا ــ مسلمين ومسيحيين متدينين وعلمانيين ــ متحدين فى المقاصد، مغالبين أهواءنا الذاتية ومصالحنا الفئوية الضيقة ونزاعاتنا الطائفية المتشددة التى توشك أن تدمر مستقبل هذا الوطن، إلى دائرة الفعل الجمعى المخلص بعد أن تآكلت أرواحنا وصدئت أفكارنا فى ظلال الجمود والانتظار والانقسام والانفلات الذى تجاوز كل الحدود.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved