صور.. صور

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 15 أكتوبر 2020 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

شدّني كلام الدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ الحديث المرموق عن علاقة الطبقة الوسطي بالصور، وكان ذلك في الندوة التي عقدتها مكتبة الإسكندرية بمناسبة مرور ٥٠ سنة على وفاة عبد الناصر. قال دكتور عفيفي إنه بين كل صور الأقارب المعلقة على جدران بيت أسرته في حي شبرا الحبيب لاحظ وجود صورتين لشخصين لا يذكر أنه شاهدهما من قبل في التجمعات العائلية، وبمرور الوقت عرف أن إحدى الصورتين تخص الرئيس جمال عبد الناصر، أما الأخرى فإنها تخص الكابتن صالح سليم، فقد كان والده رحمه الله ناصرياً وأهلاوياً، وفي جملة عابرة أضاف إن الطبقة الوسطى هي الطبقة الحريصة على التأريخ والتوثيق وحفظ الذاكرة، وإنها ظلت توظّف الجدران لهذا الغرض حتى ظهرت الألبومات فانتقل مخزن الذكريات من الحائط إلى الألبوم. ولأن ندوة الإسكندرية لم تكن بحكم طبيعة موضوعها تحتمل نقاشاً موسعًا حول علاقة الطبقة الوسطى بالصور، فإن ما لم أدركه في الندوة حاولت أن أتداركه خلال رحلة العودة من الإسكندرية في السيارة التي جمعتني بدكتور عفيفي ثم في مكالمة طويلة معه، فقد أثار فضولي بحديثه عن الصور، وأكثرنا يحب الصور.
***
قل لي يا دكتور عفيفي ما دليلك على أن الطبقة الوسطى كانت في منتصف القرن هي الأكثر تمسكاً بتدوين تاريخها على جدران البيوت؟ ولماذا نستثني الطبقة الأرستقراطية التي لديها ما تُخلّده على الجدران من باشاوات وأكابر وأوسمة ونياشين وسيوف وهيلمان؟ رد: هناك دراسات عديدة اشتغلت على هذه الظاهرة.. ظاهرة التأريخ باستخدام الصور وقدمت لها جدران بيوت الطبقة الوسطى خدمة ممتازة في هذا الخصوص. لوسي ريزوڤا الباحثة التشيكية مثلاً، تتلمذَت على يد وولتر رمبرست الباحث الأمريكي المتخصص في تحليل الثقافة الشعبية المصرية، وكانت إضافة ريزوڤا هي دراسة تاريخ مصر الحديث من خلال البراويز ومفكرات أبناء هذه المرحلة، وجميع هذه الأشياء اشترته ريزوڤا من محلات العاديات في حي عابدين. بحثتُ عبر جوجل عن اسم لوسي ريزوڤا فانفتح أمامي على الفور كنز علي بابا، لها كتاب عن عصر الأفندية في مصر تحت الاحتلال البريطاني، ولها مقالات كثيرة مماثلة منها مقالة طريفة بعنوان الأولاد والبنات وكوداك بالتطبيق على مصر. والفكرة الأساسية في أعمال الباحثة التشيكية هي أن التصوير والبروزة كانا وسيلة شباب الطبقة الوسطى في النصف الأول من القرن العشرين للدخول إلى عصر الحداثة. لاحقاً تزوجت الباحثة من مشرفها ومضى يقرأ كل منهما تاريخ مصر على طريقته.
***
نأتي للفارق بين الطبقتين الوسطى والأرستقراطية من حيث العلاقة بالصور، وهو فارق ملحوظ كما يراه محدثي، فالطبقة الوسطى تحتفي بالتصوير من أجل الحفاظ على ذاتها، فهذه الذات قلقة ومهددة دائماً بالانكماش نتيجة التغيرات المجتمعية المتتالية. التصوير عند هذه الطبقة محاط بطقوس وعادات تعبر عن منزلته الخاصة.. يتأنق أبناؤها ويتجملون ويذهبون إلى مصور الحي ويختارون براويزهم. نادراً ما يصل الأغراب إلى حوائط الطبقة الوسطى، سواء كان هؤلاء الأغراب من الزعماء السياسيين أمثال سعد زغلول أو مصطفى النحاس أو عبدالناصر، أو كانوا هم من رجال الدين أمثال الشيخ الشعراوي والبابا كيرلس. ثم أن الاحتفاء بشجرة العائلة-خاصة إن كانت من الأشراف- يعد أيضاً من تقاليد الطبقة الوسطى لتثبيت الجذور، لكنه انتشر في مرحلة تالية وصار عابراً للطبقات. أما الطبقة الارستقراطية فإن اهتمامها الأساسي ينصّب على اللوحات الفنية خصوصاً اللوحات الأصلية لمشاهير الرسامين. تتحول الجدران لدى هذه الطبقة إلى ما يشبه المعرض وليس المحكي كما هو الحال مع الطبقة الوسطى، وحيثما "بروزت" الصور العائلية فإنها تكون انتقائية ولا تستهدف التوثيق. وأخيراً فإن الطبقة الأرستقراطية لديها مصورها الخاص الذي يأتي لها خصيصًا فليس من بين تقاليدها الذهاب إلى الاستوديو.
***
لكني بعد هذا الحوار الممتع والممتد مازلت غير متأكدة تماماً من أن الطبقة الوسطى تتعمد توظيف جدرانها في عملية التوثيق التاريخي. أعود بذاكرتي لبيت أهلي وأقاربهم ومعارفهم فلا أكاد أَجِد إلا صورة الزفاف للأبوين وصوري أنا وشقيقيّ. ثم إن جدراننا لم تخل أبداً من اللوحات الفنية، أذكر أن والدي رحمه الله كان صديقاً للفنان الكبير شفيق شاروبيم ولذلك احتلت أعماله أكثر من حائط من حوائط بيتنا وقد أحببتها كثيراً، أما اللوحة التي لم أحبها أبداً فهي تلك الصورة التي غزت فجأة معظم بيوت الطبقة الوسطى فكانت لطفل يبكي وعلى وجهه حزن عظيم وفي عنقه إيشارب، لم أدر مَن بالضبط قررها علينا جميعاً لكنها كانت موجودة. ثم إن جدران أمثالنا كانت تزدان بلوحات زيتية لمناظر طبيعية خلّابة رسمتها فتيات العائلة، أما لوحات الكاناڤاه فحدّث ولا حرج. تبدو لي جدراننا نحن أبناء الطبقة الوسطى وكأنها قد فتحت ذراعيها للفن كما للتاريخ، وعموماً فإن تاريخنا لم تكفه الجدران فأكوام الصور في الصناديق الخشبية والقطيفة ثم في الألبومات كانت بلا عدد، في هذه الصور ما يخلع القلب لأنه يخص وجوهًا حبيبة غابت عنّا، وفيها ما يرسم البسمة لأن وجوهاً أخرى أكرمها المصور فلّون عيونها بالأخضر والأزرق قبل اختراع العدسات اللاصقة بزمااااان. فاتني أن أذكر في مسألة العلاقة بين الانتماء الطبقي والصور أن فقراء مصر كثيراً ما علقوا صور مشاهير السياسة والدين في بيوتهم ومحلاتهم.
***
الآن اختلف الوضع كثيراً عن كل ما سبق، لم تعد جدران البيوت هي التي تحمل الصور العائلية بل صارت هي جدران الفيسبوك، يندر أن تمر مناسبة لا تجد لها مكاناً على الفيسبوك حتى ما كنا نعتبر ستره من باب لزوم ما يلزم: سكرات الموت ولحظات الوداع الأخير. وفي هذا المقام لا نستطيع أن نميز بين الطبقات فكلها يلتقط الصور وكلها يسجل اللحظة وكلها ينشر على الملأ. أما جدران البيوت الطبقتين الوسطى والأرستقراطية (لعل من الأوقع وصفها حالياً بالطبقة العليا) فقد انحسرت فيها الصور العائلية وزحفت إليها الأطباق المنقوشة والسجاجيد والكفوف والأدعية والمرايا فيما اختبأ جزء محترم من هذه الجدران خلف الأشجار الطبيعية/ الصناعية الباسقة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved