غاندى وروح الحقيقة

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الخميس 15 أكتوبر 2020 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب عبدالحسين شعبان... نعرض منه ما يلى:
«الرجل الذى يطمح إلى معرفة روح الحقيقة لا يستطيع أن يعتزل الحياة...» هذا ما قاله غاندى، وروح الحقيقة التى كان يطمح إليها هى «تغيير رأى الشعب البريطانى من خلال اللاعنف، لأجعلهم يرون الخطأ الذى ارتكبوه تجاه الهند» كما يقول فى رسالة وجهها إلى نائب الملك البريطانى اللورد إيروين، وذلك بعد مسيرة «الساتياجراها» التى تعنى «المقاومة السلمية» لنيل الحقوق بلا مهادنة أو مساومة، كما يعتقد البعض خطأ، فقد بدأ مسيرة الملح مع مجموعة صغيرة من أتباعه يوم أطلق ذلك النداء السحرى للعصيان المدنى الذى سرعان ما عم الهند من أقصاها إلى أقصاها فى العام 1930، فتوجهت الجموع مشيا على الأقدام مسافة 390 كم، وقد جعلته تلك الحادثة شخصية عالمية حيث اختارته مجلة «التايم Time 1930» شخصية العام.
وكان غاندى قد خاطب البريطانيين «اخرجوا من الهند» وذلك فى العام 1942، ودعاهم فيها إلى الانسحاب الفورى من البلاد، لكن السلطات البريطانية اعتقلته لمدة 19 شهرا، ثم أطلقت سراحه بعد وفاة زوجته العام 1944، إلا أنها اضطرت إلى الرضوخ لمطالب حركة غاندى اللاعنفية التى كانت وراء استقلال الهند.
وكانت نقطة التحول فى حياة غاندى، هى اعتراض رجل أبيض على وجوده فى مقصورة الدرجة الأولى من القطار المتوجه من ديربان إلى بريتوريا على الرغم من حمله تذكرة سفر، وعندما رفض غاندى النزول من القطار والانتقال إلى قطار آخر، سُحب بالقوة وألقى من القطار فى محطة أخرى، وكانت تلك اللحظة قد أيقظت فى نفسه فكرة العصيان المدنى، ورفعت من عزيمته لمحاربة ما أسماه «مرض التحيز اللونى المستعصى» علما بأنه عاش وعمل محاميا فى جنوب إفريقيا نحو 20 عاما، حيث وصلها فى العام 1893.
ومنذ تلك الليلة قطع عهدا على نفسه بأن «يبذل قصارى جهده لاستئصال هذا المرض واحتمال الصعاب فى سبيل ذلك»، وهكذا نمت تلك القوة العملاقة الناعمة فى داخله لتصبح قوة مادية يصعب اقتلاعها بفعل إيمان ملايين الهنود بها، ومن ثم لتغدو فلسفة للمقاومة السلمية المدنية اللاعنفية على الصعيد الكونى، تلك التى تربط الوسيلة الشريفة والعادلة بالغاية الشريفة والعادلة، حيث لا انفصال بينهما، لأن شرف الغاية هو من شرف الوسيلة، والعكس صحيح أيضا، فهما مثل البذرة إلى الشجرة، وهناك علاقة عضوية بين الوسيلة والغاية، وإذا كانت الغاية بعيدة وغير ملموسة، فالوسيلة راهنة وملموسة، لأنها الأكثر تعبيرا عن الغاية.
لم يعد غريبا أن يرشح لجائزة نوبل 5 مرات وأن تطلق بريطانيا طابعا رمزيا تكريما له بمناسبة مرور 21 عاما على وفاته، وأن تتخذ الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها ال 61 قرارا برقم 271 وفى 15 يونيو 2007، يقضى إحياء ذكرى عيد ميلاده فى 2 أكتوبر 1869 من كل عام، باعتبارها يوما عالميا للاعنف، و«مناسبة لنشر رسالة اللاعنف عن طريق التعليم وتوعية الجمهور»، وأكد القرار الأهمية العالمية لمبدأ اللاعنف والرغبة فى تأمين ثقافة السلام والتسامح والتفاهم واللاعنف.
إن كلمة «اللا» لها أكثر من دلالة، فإذا كان المذموم مرفوضا، أى العنف، فما بالك إذا وضعت أمامه «لا»، حيث يكون النفى مركبا ومضاعفا والمذموم أكثر ذما، واللاعنف سلاح ماضٍ فى متناول المظلومين ويستطيع أن يواجه جميع الأسلحة التدميرية، وذلك إبداع إنسانى ضد القاعدة السائدة على مر التاريخ، حيث كان العنف عنوانها، خصوصا بنبذ العنف بجميع أشكاله وصوره، سواء كان ماديا أم معنويا، قولا أم فعلا، واللجوء إلى الحلول السلمية لفض النزاعات والخلافات، وذلك طموح البشرية فى تجسيد وحدة الإرادة والعمل لصالح السلام والتسامح و«الإخوة الإنسانية» التى تؤمن بها الأديان والفلسفات المختلفة.
إن ما تواجهه البشرية اليوم من كوارث صحية مثل «كورونا» وحالات الطوارئ المناخية وانتشار الحروب والنزاعات المسلحة والفقر والجهل والأمية والتخلف، كلها تتطلب إشاعة ثقافة السلام والعدل ومنع استغلال الشعوب وإذلالها ونهب ثرواتها والبحث عن المشترك الإنسانى، وذلك من خلال مواجهة خطاب الكراهية والتعصب ووليده التطرف ونتاجها العنف والإرهاب، تجنبا لأى عنف جسدى أو معنوى، اجتماعى أو سياسى أو اقتصادى أو جندرى أو ضد المجموعات الثقافية أو الشعوب الضعيفة، لأن العنف سيضاعف من المشكلات ويفاقم من تعقيداتها، وسيكون أكثر كارثيا على الأطفال والنساء والشيوخ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved