لماذا يحرقون الكنائس فى كندا؟!

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 15 أكتوبر 2021 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

هناك سؤال احتارت البرية فى إجابته: هل الدين وحده هو الذى يشكل المجتمعات من حيث التقدم والتخلف، الحرب والسلام، الأخلاق والإباحية، احترام إنسانية الإنسان أو عدم احترامها... إلخ؟! أم أن هناك عوامل أخرى مع الدين مؤثرة وفاعلة فى تشكيلها؟! وللإجابة على هذا السؤال علينا العودة إلى الدروس التى تعلمناها من مناهج التفكير العلمى ومراجع الفلسفة والمنطق بداية من تحليل الأفكار والأحداث، والأزمنة والحضارات والتطور التاريخى، وكذلك قراءاتنا العامة وخبراتنا السياسية والعلمية والاجتماعية لنكتشف ما الذى تقوله لنا ثقافاتنا المتعددة المصادر بهذا الشأن؟!
هناك قاعدة علمية فلسفية متفق عليها تقول «لا يوجد سبب واحد أو علة واحدة حصرية لأى ظاهرة إنسانية سواء كانت علمية أو تاريخية أو اجتماعية... إلخ»، وعلى الرغم من منطقية هذه الجملة، إلا أن عموم البشر فى بلادنا ومعظم بلاد (العالم الثالث) لا يلتفتون إليها ولا يستخدمونها، لكنهم فى مواجهة أى ظاهرة طارئة يهرعون إلى التفسير الدينى سواء لمعرفة أسباب الظاهرة أو فهمها وعلاجها. لذلك نادى الكثير من العلماء فى بلادنا العزيزة أن النهضة الأوروبية وتقدم المجتمعات هناك كان بسبب فصل الدين عن الدولة، لكن فصل الدين عن الدولة ليس هو السبب الأقوى ولا الأعظم ولا الأكثر تأثيرًا فى تكوين الحضارة الأوروبية. فتجربة فصل الدين عن الدولة جاء فى تجربة أوروبا ضمن منظومة متكاملة من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية بل وثقافية ومعرفية، لكن فى التجربة الأمريكية مثلًا الأمر مختلف، فأمريكا تأسست على الكتاب المقدس دستوريًا، واعتبر المؤسسون الأوائل أن أمريكا هى أرض الموعد (الأرض التى وعدهم الله بها)، ويتبنى هذا الاتجاه سياسيًا الحزب الجمهورى، ونستطيع القول إن لديهم أيضًا اجتهادات كثيرة ومتعددة فقهية ولاهوتية بهذا الشأن. وهكذا نرى أن الدين عامل مؤثر فى الحضارة لكن ليس شرطًا، فهناك حضارات رفضت الدين وبنت حضارات مثل الكتلة الشرقية روسيا ويوغوسلافيا... إلخ.
•••
فى شهر يوليو الماضى استيقظ الشعب الكندى على حرائق تنشب فى عدة كنائس وأخذت فى طريقها الكنيسة المصرية القبطية الأرثوذكسية، فلم يكن الحريق متعمدًا لهذه الكنيسة بعينها، لكن كان هناك موجة سُخط دفين وكاسح من الكنديين ضد الكنائس بشكل عام وخاصة من سلالة رجال الدين الذين أسسوها. فقد اكتشف البوليس أن هذه الحرائق أعمال انتقامية لإخماد الغضب والسخط لديهم، إذ اكتشف الكنديون مئات القبور لأطفال فى المدارس الداخلية والتى كانت تُديرها الكنائس الكاثوليكية على مدى عشرات السنين أو أكثر فى جميع أنحاء كندا، وقد قام الكنديون الأصليون بإحصاء أعداد الوفيات الكثيرة والمتعددة بين أطفالهم لعدة أجيال سابقة، وكانت فى تلك الأزمنة تُدفن بشكل عشوائى وروتينى، مع إصرار شديد من هذه المدارس بعدم تسليم الجثث لأهاليهم. وعندما تم فضح هذه الأمور كانت صدمة رهيبة للأهالى، وقد تم إحصاء عدد الأطفال الذين دُفنوا ووجَدوا أنها لا تقل عن مائة وخمسين ألف طفل من سكان كندا الأصليين. وعلى الرغم من استحالة معرفة العدد الحقيقى للضحايا من بينهم إلا أنهم قدّروا أنهم لا يقلون عن ستة أو سبعة آلاف طفل، لم يعودوا لأسرهم وماتوا بسبب المرض أو اللامبالاة، وما زال البحث عن آخرين. ومع بدء اكتشاف القبور بدأت ظاهرة حرق الكنائس، وقد أُحصى عدد الكنائس التى أحرقت أو خُربت ما يقرب من عشرين كنيسة فى أنحاء كندا، وبالطبع كان الغضب والانتقام ضد جميع الطوائف المسيحية ولم تكن حصريًا للكنائس الكاثوليكية. ومن هنا أُحرقت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية عن طريق الخطأ. ومن الغريب أن تأتى هذه التصرفات والأخلاقيات من دولة تُعتبر من الدول المحسوبة ضمن قمة العالم الأول المتحضر، وبالطبع التعميم فى هذا الأمر ليس تفكيرًا علميًا أو موضوعيًا، ولا شك أن الانتقام أيضًا له ثمن، فالانتقام والانتقام المضاد يخلق دائرة مُفرغة لا ينتهى دورانها ويجعل من الصعب نسيان الإساءة والغفران.
•••
هذا النموذج توضح لنا أن الدين ليس هو السبب الأساسى فى تقدم أو تخلف المجتمع، لكن عندما نأتى لنبحث عن أسباب تخلف المجتمع المصرى ونستمع فى بعض المحاضرات والتحليلات الاجتماعية إلى من ينادى بأن الدين هو الأساس فى تخلف مجتمعاتنا، هنا لابد من وقفة. فبلا شك أن القضية هنا ليست فى النصوص الدينية، وذلك لأن النصوص الدينية اليهودية (العهد القديم من الكتاب المقدس) والمسيحية (العهد الجديد) وفى الإسلام القرآن الكريم، يتوقف فهمنا لها على النص المقدس الموحى به وتفسيره، والنص عريق قديم بطبيعته وله خلفياته اللغوية والحضارية التى يجب العودة إليها لإدراك المقصود منه فى وقت الكتابة، وفى ذات الوقت الرسالة التى يريد الوحى المقدس إيصالها للبشر المعاصرين الذين يقرءونه ويسمعونه هنا والآن. فالتطبيق الحديث والمعاصر له أدواته، والمعروف علميًا وأكاديميًا أن النصوص الدينية حمالة أوجه، ولتفسير هذه النصوص لابد من العودة إلى الخلفية التاريخية كما ذكرنا أولًا، ثم التفسير اللغوى وما تطرحه اللغة من أبعاد ومعانٍ، وكيف نتفهم النص الدينى اليوم، وأخيرًا التطبيق المعاصر أو العصرى الذى يتفاعل مع الزمان والمكان بل والإنسان المعاصر فى الحضارة التى يعيشها، سواء فى الغرب أو الشرق، الشمال أو الجنوب. فنزول الآيات كان منذ آلاف ومئات السنين وفى حضارات إنسانية تختلف تمامًا عن حضارات اليوم وكانت تشير لأحداث بعينها، ومن المهم معرفتها جيدًا فى خلفيتها التاريخية ولغتها، ثم استخلاص المعانى اللغوية المجردة، بغض النظر عن الزمان والمكان والحضارة، وأخيرًا كيف نطبق النص المقدس العريق فى هذا العصر الذى نعيشه، وكل عصر له ثقافاته وتصوراته وبنيانه الذى يختلف كثيرًا عن تاريخ نزول الكتب المقدسة، وهنا يأتى دور الاجتهاد الذى يَبنى المجتمعات وينميها ويوجهها نحو السلام والمحبة والتقدم العلمى والاجتماعى... إلخ.
•••
السؤال الذى أحاول الإجابة عليه فى هذا المقال هو: هل الدين هو سبب تخلفنا؟! أم التفسير الدينى للمفسر هو سبب التخلف؟! هنا علينا أن نُدرك أن الهدف الأساسى من نزول الأديان هو تقدم الإنسان والمجتمعات حضاريًا وأخلاقيًا وفكريًا واجتماعيًا، لذلك فالتركيز على هدف واحد أو عامل واحد متغير، أو تفسير واحد يختلف من زمان لآخر ومن حضارة لأخرى ومن لغة لأخرى، هو نوع من الفكر الكارثى بل هو قراءة سيئة للكتب المقدسة وتفسير سيئ.
بعد ١١ سبتمبر كثر الكلام عن أن تيار الإسلام السياسى هو أساس كل مشاكلنا وتخلفنا، بالطبع هو أحد العوامل وليس العامل الأوحد، فالتفسير المعاصر الخاطئ للنص ينبع من طبيعة النظام السياسى والاجتماعى والاقتصادى والعلمى الذى عشناه ونعيشه، بل ومستوى الثقافة لمجتمعاتنا وبنيانه وبيئته. والسؤال هو لماذا نحصر أنفسنا فى التفسير الدينى المحض ونتجاهل باقى العوامل السياسية والثقافية والعلمية وتعدد المصادر التفسيرية؟!.
بنظرة للعالم المتقدم نجد الفلاسفة الغربيين وعلماء الدين والاجتماع هم الذين يعتمد المجتمع عليهم فى تطوره وليس طرفًا واحدًا منهم أو بعدًا فكريًا واحدًا.. فهل نفعل؟!
أستاذ مقارنة الأديان

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved