الحوار الوطنى.. نحو منصات للانطلاق

محمد رءوف حامد
محمد رءوف حامد

آخر تحديث: السبت 15 أكتوبر 2022 - 8:42 م بتوقيت القاهرة

منذ لحظة بزوغ الدعوة الرئاسية للحوار الوطنى أحسُ به فرصة للتحول إلى الأحسن، وبأن قدومه ليس بالضرورة انعكاسا لعوامل خارجية. لقد رأيت فى هذه اللحظة مدخلا لمعالجة القلق (من القلق المجتمعى إلى الحوار الوطنى والعكس ــ الشروق ــ 2 يوليو 2022)، ولإتاحة الحوار العام (الحوار الوطنى بشأن الحوار الوطنى ــ الشروق ــ 18 أغسطس 2022).
عمليا، يمثل هذا الحوار تحديا للخروج من «عنق الزجاجة». ومنهجيا، فى الحوار ركيزة للانطلاق إلى المستقبليات، مما يعنى الحاجة لبناء «منصات» طرائقية لهذا الانطلاق. وعليه، يجتهد الطرح الحالى فى التعامل مع الضرورة والآليات، لاجتياز «عنق الزجاجة»، ولممارسة الانطلاق من منصات للتقدم.
• • •
أولاــ التحرر من عنق الزجاجة.. كيف؟
بداية، فى حُسن اجتياز عنق الزجاجة سلامة وصحة لما يتلو من مسارات. ومن ثم، فى عنق الزجاجة يكمن سر الأهمية القصوى للحوار.
ببساطة، الانسداد (أو التضييق) فى أى مسار، مثل سريان المياه، أو مرور المشاة، أو حرية الرأى، ينعكس سلبيا على كل السياقات المحيطة بالمسار. فى هكذا «تضييق» يتنامى وضع عنق الزجاجة.
فى المقابل، يحتاج اجتياز عنق الزجاجة أقصى اهتمام بالترتيبات، تجنبا للفوضى أو الشواش Chaos.
واقعيا، لعنق الزجاجة فى حياتنا مدى غير عادى من التنوعات، على غرار ما يلى:
ــ حساسية فوق عادية فى العديد من التعاملات الأمنية مع أصحاب الرؤى الوطنية، المخالفة أو المختلفة، مما استدعى مؤخرا انفراجة تصحيحية بالإفراج عن بعض مسجونى الرأى.
ــ تأخر ردود الأفعال الرسمية تجاه رؤى الخبراء بشأن سلبيات بعض كبار المسؤلين، وزير التعليم ورئيس جامعة دمنهور، الأسبقين، نموذجا.
ــ تجريف كيان علمى وطنى عريق، وريادى، وهو «الهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية»، دون أى «حوار» مع خبرائه، وبرغم ما بُذل من محاولات لإعادة تقييم مشروعية وجدوى هذا التجريف.
ــ إقصاء للخبراء (من المهتمين بالشأن العام) من المهام الاستشارية العليا، وفقا لتصريح للدكتور طارق شوقى الأمين العام للمجالس الاستشارية الرئاسية، وفيه يشير إلى وجود قاعدة بيانات ضخمة للاختيار، ممن تنطبق عليهم الشروط، ومنها «أن يكونوا بعيدا عن العمل السياسى والحزبى، بمعنى أن يكونوا أصحاب كفاءة فى عملهم فقط» (المصرى اليوم ــ حوار ــ 28/5/2015).

من هكذا أمثلة تتجسد الحاجة إلى التحرر من سياقات عنق الزجاجة، من أجل حوار رائد.
ثانيا ــ منصات الانطلاق.. لماذا؟
بينما تزخر مصر بكوادر معرفية عميقة الخبرة والحكمة، إلا أن تعبيراتهم عن رؤاهم (فى مقالات أو محاضرات.. إلخ) تظل ضعيفة الجدوى، حيث لا تأتى فى إطار منظومى جماعى رسمى يكفل لها التفاعلية والإنضاج. هنا تتجسد الحاجة لـ«الحوار الوطنى» كإطار، حيث الحوار يعنى التشارك فى الاستكشاف والفهم، مما يقود إلى أحسن ما يمكن من توافق «جماعى» من أجل ما هو أحق، وأجمل، وأكثر جدوى.
ولأن الأزمة الداعية للحوار مزمنة، فإن الحوار الوطنى لابد وأن يقصد إلى التحول Transformation، وليس مجرد تصحيح طارئ.
لذا، من المهم التأكيد على ثلاث مسائل:
أولا ــ أن ما نحتاجه هو حوار (للاستكشاف والفهم والتوافق) وليس مؤتمرا (للمجادلات ولتنافسية المسارات الشخصية).
ثانيا ــ أن حالة مصر بتَعَقُد مشكلاتها وعمق تحدياتها وعظيم إمكاناتها تحتاج إلى منصات نوعية للحوار.
ثالثا ــ أن الحوار ليس مباراة فى البدائل، وعليه فرؤية المعارضة بأن لديها بدائل، إنما من المفترض أن تعنى أن لديها مدخلات عظيمة للحوار، حيث المسألة تتمركز فى التوصل «الجماعى» ــ بالحوار ــ إلى شىء مفهوم ومطلوب وممكن.
• • •
ثالثا ــ المنصات النوعية للانطلاق:
من ناحية الشكل التنظيمى فإن ما يمكن رصده إعلاميا عن ترتيبات الحوار الوطنى، من قيادة وأمانة فنية ولجان.. إلخ، يبعث على الأمل. وبصرف النظر عن إشكالية الوقت، (ربما فيما عدا الحاجة إلى توقيف مؤقت Pause للإجراءات فيما يتعلق بالاستدانات وبيع الأصول.. إلخ، مما يمكن أن يمس الحوارات بشأن الأزمة الاقتصادية، وكنا قد أشرنا إلى ذلك مبكرا)، فإن مجريات الأمور فى الواقع التطبيقى تشى بوجود سياقات منظومية طيبة.
امتدادا (أو استكمالا) لهكذا حس، فإن إشكالية الأزمة الاقتصادية والسياقات التى سبقتها، تدفع إلى ضرورة وصول الحوار إلى عمق مستوى الاحتياجات الوطنية، بحيث تتقابل كفاءة مخرجات الحوار مع شدة الاحتياجات.
ذلك بمعنى أن يقود الحوار للارتقاء إلى «مدارات» أعلى للتقدم الوطنى.
فى هذا الاتجاه تنشأ الحاجة إلى «منصات نوعية للانطلاق»، نشير فيما يلى إلى أهمها:

1) منصة للحوار الوطنى المستديم:
إذا كان الحوار الوطنى «المركزى» هو الحوار الكبير Macro، فإن كل مجالات الحياة فى مصر فى حاجة إلى انتشار الحوار على المستويات الأفقية (فى وحدات العمل والمحليات.. إلخ). هذه الحوارات تقصد إلى التشارك فى الاستكشاف، وتحسين الفهم والتعاون، ودفع الإنجازات، على مستوى هذه الكيانات. إنها الحوارات الأصغر، أو الـ Micro.
استدامة الحوار الوطنى، فى كل الأوقات، على المستويين الكبير والصغير، تكون له انعكاسات كبرى على ترشيد الإدارة وبناء الثقة وتعميق الانتباهات، وتجنب الفساد وتحسين المستقبليات، على كافة مستويات الدولة.

ب) منصة الممارسات السياسية الجيدة:
تعانى البلدان النامية فى عمومها من حيودات فى التوازن بين المنظومية ودرجات الحرية. فى أحيان كثيرة تتحول المنظومية إلى اللا منظومية، بفعل سوء الإدارة، وهيمنة القيادة بالتحجيم، خاصة فى غياب درجات الحرية المناسبة.
وفى العموم يكون الخلل فى توازنية المنظومية والحرية ناجما عن خلل فى الممارسات الإدارية السياسية. ولأن حركية السياسة تمس الشأن العام برمته، فإنها تكون فى حاجة إلى توافق انضباطى مجتمعى يقدر على التوصل إلى ميثاق معلن بشأن الممارسات السياسية الجيدة Good Political Practices.
إنها الممارسات التى يخضع لها (ويحميها) الجميع، برغم التفاوت فى المراتب، أو المسئوليات، أو الثروات.

ج) منصة للإبداع التنموى:
لا يمكن التوصل إلى تنمية حقيقية فى بلدان الجنوب من خلال الاتباعية للتوجهات العالمية/ العولمية. إنها حقيقة تكاد تكون جذرية.
من هكذا وضع تظهر الحاجة إلى منظور تنموى وطنى. يتأكد ذلك من نماذج جنوبية عالمية المستوى، مثلما فى نماذج الصين، والهند، وماليزيا، والبرازيل.
وأما عن مصر، فتفتقد إلى تشييد منصتها للإبداع التنموى، والذى لن يكون كذلك إلا بحدوثه من «قلب» مصر (أو من «جُواها» Endogenously). ذلك أن الفكر الوطنى التنموى لم يكن أبدا فى غياب. هنا تجدر الإشارة إلى مقالين حديثين («سياسات صناعية فى مصر» للدكتور إبراهيم عوض ــ الشروق ــ1 أكتوبر، وقبله «تحديات نموذج الدولة الإنمائية» للدكتور مصطفى كامل السيد ــ الشروق ــ 26 سبتمبر). ذلك فضلا عن رؤى نظرية مصيرية نبعت من احتياجات الواقع المحلى، مثل «الوطننة» فى مجابهة العولمة، ومثل منهجية «التقدم الأسى» للعبور إلى التقدم.

د) منصة لمعياريات الخطوط الحمراء:
بالحوار الوطنى يؤن الأوان للبحث فى التوافق (المرحلى) بشأن ما عُرف بـ «الخطوط الحمراء». ذلك أن «عبقرية التقدم الوطنى وصدقيته»، لا تتحقق فى وجود ممنوعات من التناول الحوارى. المقترح هنا الاستعانة بمنصة وطنية مسئولة، تضم تنوعات من أشخاص مفكرين وأكاديميين وخبراء مدنيين وأمنيين، للبحث فى «معياريات الخطوط الحمراء».

رابعا ــ إدارة التحول الانطلاقى:
أهمية التحول الانطلاقى Transformational تكمن فى الولوج إلى مدار جديد أرقى مما كان، وليس مجرد تطوير أو تضبيط للموجود. هذا التحول يحتاج إلى ما يلى:
ــ منصات فكرية (محددة الأهداف الجزئية)، تحت مظلة اللجان العليا الثلاث (السياسية والاقتصادية والاجتماعية).
ــ الشفافية بالقدر الذى يقضى على «الخوف»، ويمنع «الاتباعية»، ويقاوم «الفساد».
ــ التقليل إلى أدنى ما يمكن من اللا يقينية، ومن تأثير دوائر النفوذ.
ــ سيادية «الإدارة بالمعرفة» وتحسين «إدارة المعرفة».
• • •
وبعد، جاءت الدعوة للحوار من قمة السلطة، وكانت جديرة بأن تأتى من المعارضة. نتمنى منهما معا، السلطة والمعارضة، أن يُمتعا الشعب المصرى بـ «الشمول الحوارى»، طبقا للمعايير الصحيحة للحوار، وأن يكون فى عملهما خلخلة للظواهر المجتمعية السلبية، وإثراءا للفاعليات الوطنية.

خبير صناعة الأدوية ورئيس هيئة الرقابة الدوائية السابق

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved