الخيارات الضيقة
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
السبت 15 نوفمبر 2014 - 8:40 ص
بتوقيت القاهرة
الذين لا يقاومون الإرهاب لا يستحقون الحرية والذين يعادون الحرية لا يقدرون عليه.
المعادلة حادة بقدر المخاطر وصريحة بحجم الحقيقة.
من نقلة نوعية إلى أخرى فى حروب الإرهاب يتأكد أنها سوف تطول بأكثر من أية توقعات سابقة وأن مستويات التخطيط والتنفيذ على درجة عالية من الحرفية تنذر بنقلات جديدة.
فى الهجوم على وحدة بحرية، شمال ساحل دمياط، إشارات لا تخطئ على ما قد يحدث تاليا.
الأرقام الرسمية تلخص صورة موقعة حربية فى عرض البحر، فقد جرى قتل عشرات المهاجمين وقبض على (٣٢) بينهم (٢٢) أجنبيا وأصيب (٥) من رجال البحرية وفقد (٨) آخرون.
من أين جاءت قوة الهجوم.. ما حقيقتها ومن وراءها تسليحا وتمويلا وأهدافا؟
الأسئلة جوهرية وإجاباتها تساعد على استكشاف حجم ما هو آت من أخطار قد تضرب بضراوة فى المجتمع ومستقبله قبل الدولة ومؤسساتها.
من «كرم القواديس» إلى «ساحل دمياط» نحن أمام مجموعات قتالية منظمة ومدربة تتوافر لديها نقاط تمركز وإمدادات مالية ولوجيستية، ولا يستبعد تورط أجهزة استخباراتية فى الملف.
غير أن الحسم فى هذه الأمور الحساسة يستدعى أن تكون الأدلة ثابتة والبراهين قاطعة.
بين العمليتين ارتفعت فى الداخل المصرى، بصورة لافتة، معدلات العنف العشوائى بعبوات ناسفة داخل عربات مترو الأنفاق وقطارات السكك الحديدية وفى أماكن عامة أخرى لإثارة الفزع العام.
فى الوقت نفسه لم تتوقف استهدافات الكمائن العسكرية والأمنية فى سيناء وخارجها رغم الحملات التى تطارد وتضرب.
وبين العمليتين بايعت «أنصار بيت المقدس»، أكبر التنظيمات التكفيرية المتمركزة فى سيناء، تنظيم «الدولة الإسلامية».
وهو تطور يعنى أمرين: أولهما أن «الأنصار» يستشعر وطأة الضربات العسكرية والأمنية فى سيناء التى تحاصر وتجفف تمركزاته، وفى المبايعة طلب دعم ومساندة مالية وتسليحية.. وثانيهما أن تمركز «داعش» فى الأراضى المصرية بصورة أكثر تنظيما وقدرة على الضم والتجنيد والتمركز المباشر يُخضع الحرب لحسابات جديدة دولية وإقليمية.
فى النقلات النوعية لعمليات الإرهاب، الجيش مستهدف فى وجوده ودوره ومستقبله.
استهداف الجيش يعنى بالضبط تفريغ الدولة من قوتها ودفع المجتمع بأسره إلى المصير الداعشى الذى يضرب المنطقة.
بحسب ما هو ثابت فإن التنظيمات التكفيرية تتمركز وتتمدد فى الدول الفاشلة التى تقوضت جيوشها وانهار اقتصادها وسدت أمامها أبواب المستقبل.
فى المرحلة الانتقالية الأولى جرى الخلط بصورة فادحة بين الجيش كمؤسسة وطنية قتالية والدور السياسى للمجلس العسكرى، كسلطة حكم.
بعض الذين خلطوا طلبوا إعفاء من المسئولية السياسية بحصانة الجيش لفشل المرحلة الانتقالية، وبعض الذين خلطوا على الجانب الآخر سعوا لتفكيك الجيش نفسه.
بحسب معلومات مؤكدة، طلب رجل الجماعة القوى «خيرت الشاطر» من رئيس المخابرات الحربية اللواء «عبدالفتاح السيسى» أن تكون هناك حصة للإخوان المسلمين فى الدفعة القادمة للكلية الحربية، والطلب نفسه طرحه رئيس حزب الحرية والعدالة «محمد مرسى» على قائد المنطقة المركزية اللواء «حسن الروينى»، قبل أن ينتخب رئيسا.
التفكير فى حصص حزبية بذاته يقوض معنى الجيش الوطنى ويحيله إلى ميليشيات متصارعة.
هناك الآن نزعة قوية لاختراع الجيوش فى الدول العربية القلقة من أن تطالها النيران المشتعلة حولها.
فى لبنان شىء من التماسك غير المسبوق حول «جيشنا»، رغم أنه، تسليحا وتدريبا، أقل من بعض التنظيمات اللبنانية المسلحة وشىء آخر من الفخر الجماعى بالمواجهات الجزئية التى خاضها ضد جماعات تكفيرية فى طرابلس أو فى «جرود عرسال» على الحدود السورية.
وفى دول الخليج ميل سياسى وإعلامى إلى تأكيد حضور الجيش رغم حداثة التكوين وقلة الأعداد.
فى مصر القضية تختلف، فالجيش حقيقة صلبة منذ تأسيس الدولة الحديثة على عهد «محمد على»، وهو أحد أقوى ثلاثة عشر جيشا فى العالم، بحسب التقديرات العسكرية الدولية المعتمدة.
تحت أية ذريعة لا يصح النيل من الجيش أثناء خوضه حربا ضارية مع التنظيمات التكفيرية، فهذه شراكة مقنعة فى المجهود الحربى للإرهاب.
لابد أن تكون الخيارات واضحة بلا تدليس يصف العمليات الإرهابية بالجرائم دون اسمها الحقيقى أو يصمت عليها كأنها جملة عابرة فى الصراع السياسى.
لا يصح نسبة الذين يروعون الناس فى الطرقات العامة إلى أى معنى إنسانى أو سياسى، كما لا يصح التوسع فى إسناد المهام المدنية إلى جيش فى حالة حرب فعلية.
من زاوية مقابلة: هناك شراكة أخرى فى المجهود الحربى للإرهاب.
تجفيف المجال العام يضعف مناعة البلد على التماسك الداخلى ويقوض قدرته على دحر الإرهاب وغياب العدل يرفع من وتيرة القلق الاجتماعى فى الطبقات الأكثر عوزا والمناطق العشوائية. بحسب شهادات لشخصيات مصرية التقت مسئولين كبارا فى العواصم الأوروبية فإن التململ السياسى فى مصر مرصود.
نحن لا نعيش فى كهوف منعزلة عن الدنيا وما فيها، ولهذا تأثيره السلبى على صورة البلد وفرصه فى اختراق المعادلات الدولية واستعادة عافيته الاقتصادية ويخفض فى الوقت نفسه من أية رهانات على دور مصرى فاعل فى منطقته وعالمه.
وبحسب باحثين يتقصون ما يجرى فى العشوائيات فإن الشعور بالظلم يتفاقم بما يفسح المجال للإرهاب أن يتمركز وينفذ ويضرب.
وهذا كله يتطلب حسما تأخر فى استحقاقى الحريات العامة والعدل الاجتماعى، فمما لا يتحمله بلد قام بثورتين فى غضون ثلاثة أعوام أن يعود الماضى بسياساته ووجوهه أو أن تستشعر قواه الحية أن هناك تكميما للأفواه.
الشعور نفسه سلبى للغاية على سلامة البلد فى لحظة حرجة من الحرب على الإرهاب.
الأمن مسألة حياة أو موت فى مثل هذا النوع من الحروب التى قد تداهمك فى أى وقت وأى مكان لكنه عندما يتجاوز حدوده ومهمته يخسر قضيته فى طلب دعم ومساندة شعبه.
بعض التجاوزات مفزعة ووثائقها مودعة فى المجلس القومى لحقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية الأخرى، دون أن ترفع المظالم عمن لم يستخدم عنفا أو يتورط فى التحريض عليه.
بحسب المعلومات المؤكدة فإن هناك مراجعات واسعة تجرى الآن لقوائم الموقوفين، تمهيدا لإفراجات متوقعة، غير أن العدل البطىء ظلم إضافى.
وبعض التجاوزات كاريكاتيرية، ففى توقيف طالب جامعى بحوزته رواية جورج أورويل «1984» وأن تعتبر دليل إدانة، يصم أصحاب الفعل بالجهل ويسىء إلى صورة الحاضر كله.
ورغم الإفراج عنه فإن الأثر السلبى تمدد بسخرياته فى العالم بأسره.
وفى توقيف آخر لمدير تحرير الطبعة الدولية من مجلة «اللوموند دبلوماتيك» «آلان جريش» أثناء جلوسه فى مكان عام مع ناشطتين حقوقيتين ما يتجاوز الجهل إلى ما هو أخطر، ورغم أن التوقيف لم يطله و«جريش» نفسه أقر بحسن معاملته إلا أن أكثر ما استرعى استغرابه أن سيدة تواجدت بالصدفة فى المكان اعتبرت وجوده مع فتاتين مصريتين مشروع مؤامرة يتعين إجهاضها وإبلاغ الأمن عنها.
بصورة ما فهذه السيدة نفسها ضحية لإعلام يكاد يصور كل شىء على أنه مؤامرة ويثير شيئا من الريبة والكراهية فى الأجانب.
هذه الواقعة سوف تتكرر مرة بعد أخرى تحت سطوة غوغائية لا تحتمل تفضى إلى تسميم المجال العام وحجب فرص الحوار وتقبل الاختلاف فى الآراء والتنوع السياسى، وهذا مناخ لا يساعد على أى تعاف محتمل للاقتصاد.
القصتان تعادى أولاهما الثقافة والحضارة وتنال ثانيتهما من السياحة والاستثمار.
أمام حرب ضارية مرشحة أن تطول فإن الخيارات ضيقة، فلا تساهل مع الإرهاب ولا تقبل لتغول الأمن، والبلد يحصن بالحرية والعدل.