عفوًا لقد ماتوا بالخطأ

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 15 نوفمبر 2015 - 12:30 ص بتوقيت القاهرة

قندوز بعيدة جغرافيا، لكن ما حدث فى هذه المدينة المنكوبة شمالى أفغانستان جعلها قريبة من كل من لديه حس إنسانى. ربما لا يشعر بالألفة مع طبيعة هذه المنطقة الواقعة على الطريق بين العاصمة كابول وطاجكستان، بتعريجاتها الجبلية التى يكسوها الضباب، إلا أن صور الدمار الذى حل بمشفاها الوحيد بعد أن دمرته غارة جوية أمريكية، صارت من كلاسيكيات منطقة الشرق الأوسط. جمجمة هنا، يد بشرية متفحمة هناك، بقايا قميص مربعات كان يلبسه أحد المرضى، وهيكل مبنى أصابه ما أصابه من ضرر فأصبح لا يمكن التنبؤ بهوية المكان فى السابق. هذا ما يظهر فى الشرائط المختلفة التى بثتها حول العالم منظمة أطباء بلا حدود المسئولة عن المستشفى والتى لقى بعض أعضاء فريقها الصحى حتفهم ضمن ضحايا الاعتداء الجوى الذى أسفر عن نحو ثلاثين قتيلا وسبعة وثلاثين جريحا فى الثالث من أكتوبر الماضى.

صور عديدة للخراب والدمار وأشلاء الموتى، من جراء قصف اعتذرت عنه الولايات الأمريكية، قائلة إنه خطأ غير مقصود، وكان من أكثرها فظاعة تلك التى التقطها المصور الحر ــ أندرو كيلتى ــ ونشرها فى مجلة فورين بوليسى، وقد تم سرقة ونهب ما تبقى من المعدات والأجهزة. بعدها ذاعت صور أخرى لمدرعة أمريكية وقد اقتحمت مدخل المشفى المدمر، وتردد أنها جاءت لطمث أدلة الإدانة، بعد أن طالبت المنظمة الإنسانية بتحقيق دولى مستقل فى الغارة التى وصفتها بأنها «متعمدة» و«غير مبررة» و«جريمة حرب». كل ما كان يهم القوات الأمريكية وقتها هو أن تضرب بيد من حديد جماعة طالبان التى سيطرت على المدينة منذ نهاية سبتمبر الماضى، وقيل إن بعضا من قياداتها، واحد أو ثلاثة على الأكثر، يتلقون العلاج فى مستشفى قندوز، ضمن الأهالى، وفقا لقوانين الإغاثة الدولية.

***

حقول الأرز تمتد فى هذه المدينة التى كانت معقلا لطالبان فى المنطقة الشمالية، قبل سنة 2001، بعدها تقهقروا وتراجعوا جنوبا حيث تنتشر مزارع الخشخاش، إذ تشكل هذه النبتة الصحراوية نحو 35% من إجمالى الناتج القومى وتدر نحو 2.5 مليار دولار سنويا، جزء كبيرا منها تتحكم فيه جماعة طالبان، فتجارة المخدرات هى من أهم مصادر دخلها إلى جانب أنابيب الغاز الطبيعى.

أناس يبيعون الحشيش والأفيون وينادون بتطبيق الشريعة وتغطية النساء ومنعهن من التعليم. نحو أربعين عاما من الحروب المفتوحة والسيناريوهات العبثية. بلاد يغلفها الضباب. كر وفر، ومقاتلون ملثمون انضم بعضهم لداعش بعد موت زعيم طالبان الملا عمر، ولم يقنعهم خليفته الملا المنصور بحلوله الوسط وميله للتسوية. لذا كان على الأخير أن يثبت للمنشقين أنه لا يزال قادرا على التقدم والتحكم فى قندوز، علهم يرجعون إلى صفوفه بعد أن انتشر الدواعش فى 25 محافظة أفغانية من مجموع 34.

***

اعتذر الرئيس أوباما عن خطأ القتل، لكنه أعلن أيضا أن قواته (10 آلاف جندى) الموجودة هناك لن تنسحب قبل يناير 2017، مبررا بأن الوضع لا يحتمل ترك القوات الأفغانية وحدها فى مجابهة الخطر وهى غير مؤهلة لذلك. وفى قول آخر، لا تزال بلاده فى حاجة إلى التواجد العسكرى فى هذه المنطقة، بمواجهة إيران غربا، والصين شرقا، وروسيا شمالا. أما المتحدث باسم طالبان ــ ذبيح الله مجاهد ــ فقد صرح بأن مقاتليه تراجعوا من قندوز لتجنب وقوع المزيد من الخسائر فى صفوف المدنيين. بدأ سكان قندوز ــ نحو 300 ألف نسمة ــ فى الخروج من منازلهم وفتحت الأسواق والمتاجر بعد الغارة بأيام، لكن ما الذى يمكن أن يأمله أهل مثل هذه البلاد التى فتحت بطونها وتركت مصارينها لتتعارك سوى النزوح؟ العام الماضى فقط شكل الأفغان 44% من المهاجرين واللاجئين، بدون أوراق، المسجلين حول العالم. ووصلت نسبة البطالة بين من بقوا فى الداخل إلى 60% من الأيدى العاملة.

قندوز إذا قريبة وبعيدة، تشبه صعدة، شمال اليمن، حيث تم قصف مستشفى حيدان الذى تديره أيضا منظمة أطباء بلا حدود، فى نهاية شهر أكتوبر بطائرات قوات التحالف العربى. وتشبه مدينة اللاذقية بسوريا حيث تم ــ فى أوائل الشهر نفسه ــ قصف مشفى آخر عمل به فريق «أطباء بلا حدود» فى وقت سابق، وتشبه وتشبه وتشبه... أماكن عدة وسكان قتلوا بالغلط، دون أن يتكلم أحد أو يحاكم أو يعتذر. أصبح من السهل أن تقول لأحدهم: عفوا، مات ابنك بسبب خطأ غير مقصود. نرجو أن تثق فى حسن نوايانا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved