كأى انقلاب استراتيجى يطلب تعديل موازين القوى وحسابات المصالح فإن مصيره الفشل الذريع إذا لم تسنده الحقائق على الأرض.
الصدام الخشن مع الحقائق مجازفة كبرى والاندفاع بالتهور من أعمال الهواة.
هكذا فشل فى وقت قياسى ما طلبته السعودية من أهداف بالضغط على رئيس الوزراء اللبنانى «سعد الحريرى» للاستقالة المفاجئة من عاصمتها الرياض.
تأزيم الوضع اللبنانى الهش تصادم ـ أولا ـ مع تفاهمات دولية وإقليمية، مباشرة وغير مباشرة، على إبعاد ذلك البلد العربى ـ الصغير بحجمه والمؤثر بموقعه ـ عن براكين النار لحين النظر فى ترتيبات الإقليم وتوزيع النفوذ والقوة عند الانتهاء من الحرب على «داعش».
لم يكن صحيحا بأى قدر أن التسوية التى جرى بمقتضاها إنهاء أزمة الشغور الرئاسى لبنانية محضة ـ كما شاع على الألسنة.
كان هناك إدراك لبنانى لمغبة مثل هذا الشغور على أمنه وسلامه الداخلى، لكنه كان مستحيلا التوصل إلى تسوية دون تفاهمات دولية وإقليمية، أغلبها فى الكواليس وبعضها بهز الرءوس علامة الموافقة.
الولايات المتحدة قرب نهاية ولاية «باراك أوباما» تحركت والاتحاد الأوروبى وافقها على ما ذهبت إليه والفاتيكان دخل على الخط وإيران اعتبرته إنجازا فيما لم تمانع فيه تحت الضغط السعودية نفسها.
مثل هذه التفاهمات الواسعة يكاد أن يكون مستحيلا خرقها على نحو كامل، أو أن يصادف الانقلاب عليها أى نجاح محتمل.
وتأزيم الوضع اللبنانى الهش تصادم ـ ثانيا ـ بسوء تقدير فادح من الذين فكروا وخططوا ونفذوا لمدى قوة ونفوذ السعودية فى لبنان.
باليقين فقد تصاعد دورها فى معادلاته وتوازناته الداخلية بقوة مواردها المالية أكثر من أى شىء آخر.
لم يكن لديها ما توفر للدور المصرى فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى من قدرة على إلهام فكرة الوحدة العربية وطلب استقلال القرار الوطنى.
كما لا تحوز العمق الاستراتيجى والتاريخى والتداخل السكانى الذى توفر للدور السورى فى أوقات تالية.
عندما تراجع الدوران المصرى والسورى تقدمت السعودية لملء الفراغ باعتبارها راعية لسنة لبنان ونشأت طبقة سياسية جديدة على حساب زعامات تقليدية من الطائفة نفسها.
تلك أوضاع ترتهن بظروف وقتها وليست كلمة أخيرة فى موازين القوة المتحركة.
وتأزيم الوضع اللبنانى الهش تصادم ـ ثالثا ـ مع الإرادة العامة للبنانيين، وهذا عامل حاسم فى فشل الانقلاب.
لم يكن هناك من هو مستعد أن يقامر على سلامة البلد بالانجرار إلى التصعيد السياسى على خلفية استقالة «الحريرى» خشية الوقوع مجددا فى شرك الحرب الأهلية، التى استنزفت أعصابه وموارده ومستقبله لسنوات طويلة تتابعت منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين.
تحسب للحيوية اللبنانية، شاملة أطياف الحياة السياسية على اختلافاتها الحادة، أنها استطاعت أن تضبط الأعصاب والتصرفات بما يضمن السلامة العامة.
لم تخرج تظاهرة واحدة، ولا أبدى أحد ميلا لصدام داخلى.
ما هو معتاد من مناكفات سياسية تحول إلى شىء من التوحد المعنوى وراء قضية واحدة عنوانها «عودة الحريرى» بأسرع وقت إلى بلده لشرح أسبابه فى الاستقالة الملتبسة حتى يستطيع رئيس الجمهورية البت فيها.
بتواتر المعلومات عن احتجاز رئيس الحكومة اللبنانية بدا أن ما طلبته الاستقالة الإجبارية من أهداف فى سبيلها أن ترتد على أصحابها.
بأغلب التصريحات والتعليقات لم يعد يوصف «الحريرى» برئيس الحكومة السابق، أو المستقيل، فالاحتجاز إهانة لبلد مستقل يتمتع بعضوية الأمم المتحدة، كما لنظرة البلد إلى نفسه.
تحت الضغط الدولى، فرنسا بالذات، والاتحاد الأوروبى معها، لم يعد ممكنا الإبقاء على «الحريرى» محتجزا، وإلا فإن التوجه إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار ملزم ضد السعودية وفق القوانين الدولية مسألة وقت.
وقد كان الموقف المصرى الرافض لجر لبنان إلى الفوضى مؤشرا قويا على هشاشة الانقلاب وداعيا إضافيا للتراجع.
لم يكن مقبولا الربط ما بين الاستقالة المفاجئة وتوقيف عشرات الأمراء والوزراء ورجال الأعمال الكبار فى المملكة بيوم واحد، كأنه اتهام لـ«الحريرى» بالفساد كمواطن سعودى.
ولم يكن معقولا الحديث عن تعيينه مستشارا بالديوان الملكى، أو خلافة شقيقه الأكبر له، فتلك عجرفة يصعب تقبلها داخل تياره وأسرته وعند كل لبنانى يستشعر كرامة بلده.
كما ليس من الطبيعى الإصرار عند مغادرته العاصمة السعودية على إبقاء أفراد أسرته المتواجدين بها ـ كأنهم رهائن يضمنون بها عدم خروجه عن الخط المرسوم.
بمثل هذه التصرفات العشوائية كانت الهزيمة سريعة وحاسمة.
ربما هناك من نصح بإغلاق الملف بأقل قدر من الخسائر، وعودة «الحريرى» عن استقالته حتى تحفظ السعودية شيئا من حضورها اللبنانى، لكن «الفأس جاءت فى الرأس» ـ كما يقول المصريون فى مثل هذه الأحوال.
كلام «الحريرى» ـ الأقل حدة والأكثر انفتاحا على فكرة العودة عن استقالته فى الحوار، الذى بثته قناة «المستقبل» اللبنانية ـ يومئ بتوقعات أخرى أميل إلى المصالحة من الصدام على عكس ما طلبت السعودية تماما.
أحد الافتراضات الرئيسية فى احتجاز «الحريرى» أنه لم يتبع خطا متشددا مع حزب الله وانفتح بشىء من الحميمية على الحوارات مع الإيرانيين ـ وآخرهم مستشار المرشد «على أكبر ولاياتى».
أسوأ ما أصاب الرياض من ضرر ما هو منسوب إليها من تحريض على عدوان عسكرى إسرائيلى جديد يستهدف حزب الله.
ما لم يفهمه حكامها الجدد أن إسرائيل تتحرك وفق حساباتها ومصالحها وتقديراتها للفرص المتاحة لا بطلبات من مثل هذا النوع.
التدخل العسكرى الإسرائيلى يربك الحسابات الدولية ويؤثر ـ بالسلب ـ على الموقف العام للولايات المتحدة فى لحظة تقسيم الجوائز بعد الحرب على «داعش».
كما يعرض الدولة العبرية لهزيمة محتملة، أو ضربات صاروخية مؤلمة.
بأى تقدير موضوعى لحقائق الموقف الإقليمى فإن إسرائيل تحوز ـ بالهرولة العربية للتطبيع المجانى معها ـ جوائز لا تستحقها، والتدخل بالسلاح فى لبنان يحرمها من جنى جوائز جديدة تتوقعها بعد انتهاء الحرب فى سوريا.
يرادف الانقلاب الاستراتيجى الفاشل فى لبنان فشل آخر تدفع السعودية ثمنه باهظا فى الحرب باليمن.
لم تحقق العمليات أهدافها بعد أكثر من ثلاث سنوات، ولا نجحت فى إضفاء هيبة سلاح على دبلوماسيتها.
بدت حرب اليمن مستنقعا بلا قرار وما تخلف عنها من عشرات آلاف القتلى والضحايا وانتشار وباء الكوليرا ووقوف البلد كله على شفا أخطر مجاعة فى العالم أساء بفداحة لصورة السعودية ـ وفق تقارير الأمم المتحدة.
كانت من أسباب تلك الحرب رفع منسوب فرص تولى ولى العهد حديث السن «محمد بن سلمان» السلطة بعد والده باعتباره وزير الدفاع، الذى خطط ونفذ وحافظ على الأمن السعودى المهدد عند خاصرتها الجنوبية.
بذات القدر فإن من أسباب الضغط على «الحريرى» للاستقالة هو تأزم الموقف السعودى فى كل الملفات الإقليمية من سوريا إلى اليمن سعيا لإعادة شىء من الاعتبار للرجل القابض على السلطة فى المملكة.
كان إطاحة القوة الضاربة لمنافسيه على السلطة بذريعة الفساد انقلابا استباقيا خشية الإطاحة به هو نفسه.
ذلك انقلاب ناقص يصعب استقراره فإنهاء الشرعية القديمة رغم عيوبها التكوينية دون تأسيس شرعية جديدة مقامرة بالحكم كله ومستقبل الدولة.
بكلام آخر فإنه لا فرصة لولى العهد فى الإمساك بالسلطة إلا بالتحول إلى ملكية دستورية بالنظر إلى اتساع الطبقة الوسطى المتعلمة وإطلالها على العالم وطلبها الشراكة السياسية.
إذا لم تتأسس مثل هذه الشرعية التى تتسق مع العصر واحتياج المجتمع فإن الانقلاب العائلى سوف يستحيل قريبا إلى قبض ريح.