أجان جاك روسو بين الفقهاء المصلحين؟!

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 15 نوفمبر 2019 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

دعا مجلس الكنائس العالمى ــ والذى تأسس عام 1948م ومقره جنيف عاصمة سويسرا، والذى يتكون أعضاؤه من مجموعة من القادة وكنائسهم فى المجلس ــ لإعداد اجتماع الجمعية العمومية القادمة للمجلس فى ألمانيا مارس 2021.. ويضم هذا المجلس الكنائس الإنجيلية المصلحة فى العالم مع الكنائس الأرثوذكسية الشرقية (الروسية والرومانية والمصرية... إلخ)، إلا أن الكنيسة الأرثوذكسية المصرية انسحبت من المجلس بقرار من قداسة البابا شنودة الثالث. كان من ضمن برنامج الدعوة بجوار جلسات الإعداد زيارة متحف الإصلاح فى جنيف.. وهذا المتحف يحكى قصة ثورة الإصلاح الكنسى التى فجرها الراهب الألمانى مارتن لوثر (1483 ــ 1546م) فى 31 أكتوبر عام 1517م «بتسميره» على باب كاتدرائية وتنبرج بألمانيا «95 احتجاجا» أشاروا إلى فساد الكنيسة فى عدة مجالات.. وإذا كان لوثر هو مفجر الثورة والذى حمل مسئوليتها حتى كُتب لها النجاح، فجون كالفن المحامى الفرنسى المفوه والمثقف (1509 ــ 1564م) هو الذى نظَر للإصلاح فى كتاب ضخم يتكون من مجلدين بعنوان Calvin Institute والذى ترجم إلى العربية بعنوان أسس الدين المسيحى عام 2017م فى لبنان... وبعدها انضمت لثورة الإصلاح أعداد ضخمة من المثقفين والشعب مؤيدين للإصلاح، وانتشرت سريعا مثل النار فى الهشيم فى كل أوروبا تقريبا، ووصلت شرارة الثورة إلى العالم كله بعد ذلك.

***
فى خضم الثورة استدعى جون كالفن ليحكم جنيف بمبادئ الإصلاح الكنسى الجديد وقد قام بالمهمة خير قيام لمدة عشرين عاما. فى زيارتنا لمتحف الإصلاح بجنيف لاحظنا أن المتحف يضم صورا للمصلحين رسمها فنانون عظماء، وكذلك لوحات زيتية طبيعية تعبر عن العبادة المصلحة فى ذلك الوقت، وكذلك ترصد الأحداث التى وقعت أثناء الثورة.. إلخ.

أما ما لفت نظرى بشدة فى المتحف فهو حجرة ضخمة بها منضدة اجتماعات فخمة حولها عشرة كراسى بفخامة القرون الوسطى. كل كرسى مكتوب عليه اسم المصلح الذى جلس عليه وعلى المنضدة أمامه صورة المصلح بالألوان محفورة على طبق من أفخر أنواع الخشب، وبالطبع على رأس المائدة كان جون كالفن حاكم المدينة وقائدها الدينى. وبينما حاولت قراءة أسماء المصلحين الواحد بعد الآخر متأملا ملامحه محاولا تذكر تعاليمه فوجئت باسم جان جاك روسو على الكرسى الذى كان على يمين جون كالفن مباشرة فاندهشت بشدة، لأن جان جاك روسو (1712 – 1778م) لم يكن يوما من المصلحين، ولا حتى من المؤمنين الأتقياء، فالمعروف عنه تاريخيا أنه كان فيلسوفا علمانيا مشتهرا بأفكاره المادية، وأديبا وعالم نبات، وهو يُعد من أهم كتاب عصر التنوير.

من هنا ــ عزيزى القارئ ــ جاء عنوان المقال أجان جاك روسو بين المصلحين؟ وهذه الصياغة للجملة تعود إلى العهد القديم (التوراة) عندما اختار الله شاول (طالوت) ليكون أول ملك على الشعب اليهودى، وبدأ شاول يتنبأ وكان رأى الشعب اليهودى أن شاول (طالوت) لا يصلح أن يكون ملكا نبيا فكان الشعب يُردد متعجبا «أشاول بين الأنبياء؟»، وهكذا صار هذا التعبير لأى خبر مفاجئ عن شخص يُعين فى مكان أو مكانة غير متوقعة له (ونحن كمصريين وعرب تعودنا على هذه النوعية من البشر خاصة فى الوظائف العليا) ولما سمعنى المرشد السياحى أردد عنوان المقال «أروسو بين الأنبياء»، وضع فى يدى آلة تشبه سماعة التليفون التقليدى ووزعها على باقى المجموعة، حيث فى ساعة معينة يتم إذاعة جزء مما حدث فى هذا اللقاء، فنضغط على زر ويبدأ الحوار، وكنت فى منتهى الشوق لسماع ماذا كانوا يقولون؟ بمجرد فتح التليفون جاء صوت يشرح، أن جون كالفن تَعود كل فترة زمنية أن يدعو المصلحين ليأخذ رأيهم فى واحدة من مبادئ الإصلاح يكون قد صاغها ويشرحها، ليأخذ رأى باقى المصلحين فيها (بالطبع كل ذلك مسجل حديثا).

***
جاء صوت جون كالفن ليبدأ افتتاح الجلسة بالترحيب بالفيلسوف جان جاك روسو، وقال بعد الترحيب «إننى دعوته كمفكر وفيلسوف وإن كان ليس لاهوتيا لكنه تعاطف مع ثورة الإصلاح وذلك ليسمع آرائنا جيدا وفى النهاية يحكم على الرأى الذى يراه صحيحا من نحو المنطق الفلسفى». ثم افتتح الجلسة للحوار قائلا هناك آيات كثيرة فى الكتاب المقدس تتحدث عن عقيدة الاختيار، أى أن الله اختار بعض الناس للهلاك (الجحيم) والبعض الأخر للسماء (الجنة)، وكان السؤال: هل هناك شعب مختار؟ اتفق الحضور على أن الله هو الوحيد الذى له الحق فى أن يختار من يختاره ويرفض من يرفضه، ودار الحديث هل الله اختار شعبه قبل أن يظهروا فى الوجود وذلك لأن الله أزلى أبدى وبالتالى هو يعرف من الذين يولدون وأين، وكتب لهم مصائرهم من قبل أن يولدوا، فالإنسان لا يفاجئ الله (حاشا لله) بالتوبة ولا بالكفر فالله كلى المعرفة، لذلك أطلق اليهود على أنفسهم الشعب المختار وكذلك فعل المسيحيون والمسلمون، ففى الأدبيات المسيحية «لستم أنتم اخترتمونى بل أنا الذى اخترتكم» وفى الأدبيات الإسلامية «خير أمة أخرجت للناس».

اعترض أحد المصلحين قائلا: «إذا كان الله اختار أناسا لأنه يعلم بعلمه الأزلى أنه سيكون من المؤمنين يكون الله (حاشا لله) هو الذى يتبع الناس فى قراره وليس العكس، لأنه يعلم أن فلانا سوف يؤمن به حتى قبل وجوده بآلاف السنين وبناء على هذه المعرفة اختاره. قال ثالث لا يوجد ما يسمى بالاختيار أساسا، الله (جل جلاله) له المجد يدعو الناس من خلال أنبيائه للتوبة والإنسان حر فقد خلقة الله حر الإرادة، ولذلك عندما يتوب يقبله الله، وإذا رفض فمصيره الجحيم.

هنا جاء صوت كالفن يردد: لقد خلق الله آدم حر الإرادة فى الجنة خلقه وحواء كاملين، لكنهما سقطا فى الخطية وكانت النتيجة طردهما من الجنة، وبالتالى صار آدم وذريته من الخطاة، وحكم عليهم بالموت ثم الهلاك الأبدى فى الجحيم إن لم يتوبوا، لكن الله اختار شعبا خاصا للنجاة والحياة معه فى السماء (الجنة)، وأيضا اختار شعبا للهلاك فى النار والله هو الذى يقرر مصير البشرية من قبل أن توجد فى الوجود والإنسان ينفذ أو يحقق ما كتبه الله له، ولا يستطيع إنسان أن يغير المصير الذى رسمه الله له وقرره، وليس للإنسان غير المختار أن يحتج قائلا لماذا لم تخترنى؟.

***
بالطبع انتهى الحوار دون اتفاق واضح، وهنا توجه جون كالفن إلى صديقه جان جاك روسو الذى كان الوحيد من خارج المصلحين وسأله: بعد كل هذه المداولات ما رأيك يا فيلسوفنا العظيم فى موضوع الاختيار(القضاء والقدر)؟ أجاب جان جاك روسو بتؤدة شديدة وأتخيله مبتسما بالقول: لقد استمعت بإصغاء شديد لكل الكلام الجميل والمنطقى والعميق واللاهوتى (الفقهى)، لكن الحقيقة أنا لم أفهم معظمه، فهو بعيد تماما عن طرق تفكيرى أو تركيبة عقلى الفلسفى، وختم حديثه بالقول «إنكم تتحدثون عن عملية لا يمكن أن يتأكد منها أحد، فمعظم أحداثها فى الأزل والأبد، وبعد موت الإنسان ومثل هذه الأمور لا أُرهق عقلى البسيط فيها». وهكذا سمعنا صوت الكراسى وهى تُجر على الأرض وضوضاء السلامات وأصوات مرتفعة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved