«رسالة إلى الله»

محمود قاسم
محمود قاسم

آخر تحديث: الجمعة 15 نوفمبر 2019 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

السينما المصرية فى أغلبها مستوحاة من الواقع، لكن فى فيلم اليوم فإنها سبقت هذا الواقع بقرابة ستين عاما.. إليكم بعض التفاصيل.

لم يشاهد الناس منذ فترة طويلة واحدا من المشاهد المؤثرة فى تاريخ السينما التى جسدها الفنان حسين رياض فى فيلم «رسالة إلى الله» من إخراج كمال عطية عام 1961، وهو الفيلم الذى يستحق عن جدارة أن يكون أيضا من بين أهم مائة فيلم مصرى، فهو الفيلم الوحيد فى تاريخ السينما العربية الذى فاز بجائزة أحسن فيلم فى مهرجان كورك الذى يقام سنويا فى أبرلندا، الفيلم بطولة مريم فخر الدين وللمرة الأولى الشاعر أحمد خميس، ومعهما حسين رياض وأمينة رزق وعبدالمنعم ابراهيم.. وفيه يمكنك مشاهدة ما حدث فى قطار الاسكندرية ــ الأقصرالاسبوع الماضى، ولكن قبل تسعة وخمسين عاما فيما هو أقرب إلى التشابه.

كمال عطية المخرج مرت ذكرى ميلاده المئوية هذا العام دون أن يتذكره أحد أو يحتفل به، وهو صاحب أربع علامات بارزة فى السينما المصرية هذه الأفلام منها فيلم «المجرم» 1954، و«رسالة إلى الله»، ثم «قنديل أم هاشم» 1968، و«الشوارع الخلفية» 1973 أما فيلم «رسالة إلى الله» فهو أحد أجرأ أفلام السينما المصرية بالنسبة للموضوع، كما نرى فإنه قرأ بتمعن شديد كلا من الماضى والحاضر والمستقبل، وجمعهم معا للمرة الأولى، ولم نعد نعرف هل ما حدث فى قطار الاسكندرية ــ الأقصر حدث فى اكتوبر 2019، أم فى سينما 1961، ام سيتكرر بنقس الصورة يوما ما، مثلما كتب المؤلف فى الفيلم القديم الذى انتجه ابراهيم زكى مراد بن زكى مراد، اليهودي، صاحب شركة الكواكب، وهو كاتب السيناريو أيضا مع الروائى المسلم عبدالحميد جودة السحار، وأخرجه القبطى كمال عطية، وذلك كتجربة فريدة من نوعها بالنسبة لسينما الستينيات، وهو فيلم جدلى فى المقام الأول يبحث فيه الأشخاص عن الله بعقولهم وقلوبهم وتجاربهم الحياتية، ولذا فإن الفيلم تبدأ أحداثه بالأب المحصل، يمارس عمله ويطلب ثمن التذكرة من شاب فى العشرينيات من عمره ويتسبب فى قتله دهسا تحت عجلات القطار، هذا المحصل يسكن فى منطقة شعبية مع اسرته، وله ابنة واحدة هى عائشة، الطفلة التى ترفع عينيها دوما إلى السماء، و خاصة إلى أعلى المآذن، وهى تسأل السؤال الأبدى الذى يؤرق ملايين الأطفال فى كل الأزمنة: اين الله؟ وكيف يمكن الوصول اليه؟

وأمام مثل هذه الاسئلة فإن الأب الذى تسبب فى مقتل الراكب الشاب الذى لم يكن معه ثمن التذكرة، يظل مؤرقا طوال عمره أمام اسئلة ابنته، التى تعرضت لحادث أقرب فى بشاعته إلى سقوط الشاب تحت عجلات القطار كأنه نوع من عقاب السماء لما فعله، هذا الحادث البشع أصاب المحصل بالكثير من الندم الشخصى ولم يعاقبه القانون، لكنه ترك وظيفته، ومارس عملا آخر، وانشغل بأمر ابنته، حيث بدا أن السماء تعاقبه من ناحيتها، وقد تحدث الفيلم عن الطفلة التى أصابتها إعاقة نفسية عندما صعدت إلى أعلى المئذنة فى المسجد القريب، ولما كبرت صارت عليها أن تتزوج من صديق طقولتها الصحفى الذى كم بحث لها عن اجابات للأسئلة التى يصعب أجوبتها، وهى التى تظل مصابة بإعاقة الشلل، وحملت من زوجها.

بطل الفيلم الاساسى هو الأب، الذى يعمل كمسرى فى قطارات الدرجة الثالثة، وهى القطارات المزدحمة بالركاب الذين يتهرب الكثيرون من دفع قيمة تذكرة الركوب، وكم قابلت مثل هؤلاء الأشخاص فى الحياة، ورأيت الأساليب التى يتعامل بها المحصلون مع هذه الأنماط، وفى فترة ما كان برفقة المحصل دوما رجل من الشرطة، لحمايته، أو للقيام بالقبض على المتهرب من دفع ثمن التذكرة، وفى بعض الأحيان فإن المحصل نفسه يجب أن يكون شديد الغلظة، مثل الشخصية التى جسدها رياض القصبجى فى فيلم «انت حبيبى» ليوسف شاهين 1957، أى فى الفترة نفسها، كما أن السينما مليئة بقصص المتعلقين بأطرف القطار هاربين من دفع ثمن التذاكر، وما أكثر الأمثلة، ومنا فيلم «الهوب» لعاطف الطيب، و«حين ميسرة» لخالد يوسف وعشرات الأفلام.

الفتاة عائشة، كما أشرنا، ابنة محصل القطار مليئة بالتساؤلات حول الغيبيات منذ طفولتها، تتساءل عن الله، وعن ماهية الموت، واين يذهب الإنسان بعد الموت، والأب رجل عقلانى يحاول العثور على اجابات مناسبة وهو الذى تسبب فى موت شاب فى مقتبل العمر فيم يسمى بالموت المجانى، أو رخيص الثمن، لكن الابنة تبدو كأنها تريد معرفة المزيد، فتضع الأب فى حيرة مركبة يحاول جارها الطفل أن يجد لها بعض الاجابات، لكن الحادث الأكبر فى حياة الأب هو موت الراكب الذى هرب منه، بعد أن رفض دفع ثمن التذكرة، ويبدو الأب ملتزما تمام بما يمليه عليه عمله، فهذه أموال المصلحة وليست من خاصته، لذا فإن الرجل يصر على الحصول على ثمن التذكرة، ويهدد الشاب بتسليمه إلى الشرطة فهذا واجب، ويفلت الشاب بالجرى بين عربات القطار يلاحقه المحصل، وتفلت قدماه بين عربتين فيسقط أسفل القطار الذى تهرسه عجلاته بوحشية شديدة، فى مشهد لن ينساه المحصل أبدا طيلة حياته وهو فى أشد الحاجة إلى أن تستجيب السماء لابتهالاته، بأن يتم شفاء الابنة التى لاحقتها اللعنة منذ طفولتها بعد حادث القطار حتى صباها، ووصل الأمر أن حاول أن يرسل الرسالة المنشودة التى كتبتها عائشة إلى الله، وبحث عن مكان يبثها منه، فلم يجد سوى المئذنة التى كادت ابنته تسقط من فوقها يوما.

الفيلم غير موجود فى قنوات اليوتيوب، لكن العديد من الأجيال شاهدته على القنوت المحلية، واعتقد أن الشركات الخليجية التى اشترت اصول الأفلام قامت باخفائه ومنعه من العرض على القنوات، وبالتالى فمن الأهمية المقارنة بين ما شاهدته فى الفيلم، وما حدث فى قطارالواقع، خاصة بعد الجدل الكبير جدا خلال الايام الماضية حول ما حدث، فيبدو كأن الفيلم كتب السيناريوللواقع المعيش كى يتطابق بنسبة ثمانين فى المائة مع ما جرى، فهناك رئيس قطار يطلب ثمن التذكرة، ويصر على أداء عمله باعتباره قابل مثل هذه النماذج آلاف المرات، وأول اختلاف أن المحصل فى الفيلم يعترض راكبا واحدا أما فى الواقع فقد كانا شخصين، كما أن الركاب الآخرين فى الفيلم تصرفوا بشكل سلبى تماما باعتبار أن الأمر لا يخصهم، ولعلهم متأكدون أن الأمر لن ينتهى بالموت باعتبار أن باب القطار مغلق، وأن المكان فى تلك الأحوال كالحصن المحصن.. ولذا لم يتدخل أحد، ولم يتطوع أحد لدفع ثمن التذكرة، وقد كان المحصل حازما فى المرتين، وفى الفيلم فإن حسين رياض لم يترك الراكب يهرب بل قام بمطاردته، وهو الرجل المتقدم فى السن، ومن الواضح أن الشاب لم يكن محترفا، فسقط بين فواصل العربتين، ومات تحت العجلات، وهو لأمر نفسه الذى حدث للراكب إلى قيل إن رئيس القطار أجبره على أن يقفز من القطار لأنه لا يمتلك ثمن التذكرة، أو ربما لا يريد أن يدفع..

اعمار الضحايا فى الحالتين متقاربة جدا، وبالنسبة للواقع فقد قيل فى البداية إن الضحيتين من الأطفال، ثم جاءت الأخبار المؤكدة انهما تجاوزا سن العشرين، وأن الذى مات انتهى لتوه من أداء الخدمة العسكرية.

وهكذا تبدو السينما كأنها صورت الواقع فبل حدوثه بعقود عديدة، بل لعل هذا يحدث فى القطارات بين فترة وأخرى، فالحادث فى الفيلم تم فى قطار الدرجة الثالثة، وقد لعب الظلام دورا فى تعثر الراكب، أما فى قطار الأقصر ــ الإسكندرية، فإنه قطار مكيف مميز، ليس من الممكن فيه الوقوع بين العربات، وأيضا فإن فتح الباب تلزمه إجراءات خاصة.

فى السينما أيضا العديد من الجرائم فى افلام تم إنتاجها فى الفترة نفسها مثل فيلم «من أجل امرأة» لكمال الشيخ 1959، وحيث تم إلقاء جثمان الزوج المخنوق من باب القطار، وكم من افلام كانت ساحة للقتل منها. « قطار الليل» لعزالدين ذو الفقار، و«القطار» اخراج أحمد فؤاد، وأيضا «حين ميسرة» لخالد يوسف.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved