الله محبة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 15 ديسمبر 2018 - 10:55 م بتوقيت القاهرة

كانت اللافتة المكتوبة بخط النسخ تطل علي يوميا في حافلة المدرسة، ذهابا وإيابا، وقد وضعها السائق إلى جواره، وهو يسير في شوارع أقل تكدسا بكثير من الآن. ذهب الوقت ومضى ولافتة "الله محبة" لاتزال محفورة في ذاكرتي، أحببت معناها وشعرت أنه هكذا يجب أن تكون الحياة، وهكذا كان يتعامل السائق بالفعل معنا ومع السيدة الفاضلة التي كانت ترافقه في الأتوبيس لكي تعتني بالتلاميذ والتي نشأت بينهما مع الزمن علاقة صداقة وزمالة جعلتني أظن خطأ أنهما زوجان، من فرط ما شكلا في نظري، وأنا طفلة، ثنائيا مدهشا. لسنوات تخيلت أن "مسيو" فايز و"مدام" جورجيت يكملان حياتهما معا في المنزل أيضا ولا يفترقان، قبل أن أفهم أن ما بينهما عشرة عمل ومحبة كتلك التي تحدثت عنها اللافتة وذكرها الإنجيل في قوله: "ومن لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة".
ترن في أذني العبارة في كل مرة أسمع فيها عن حوادث عنف ضد المسيحيين في المنيا أو غيرها، وحين ترد إلى أذني دعاوى وفتاوى مجحفة، أتأمل تفسير "الله محبة" في الكتاب المقدس: " المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ. ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها. ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق. وتحتمل كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء. المحبة لا تسقط أبدا".
***
كان يكتمل معنى المحبة عندما أصل إلى المدرسة الكاثوليكية التي نشأت فيها لأجد الراهبة متوسطة العمر في انتظارنا كي لا نبقى في الباحة فترة طويلة بانتظار الجرس، خوفا علينا من البرد، فكنا ندخل معها إلى غرفة الموسيقى حيث البيانو الأسود الكبير التي تدق عليه ونغني معها، وأحيانا تروي لنا الحكايات. جرعة مكثفة من الفن الحر قبل طابور الصباح بحوالي الساعة، كنا ننتظرها بفارغ الصبر في مبنى تعليمي معروف بالانضباط الشديد، يرتفع سوره كالأديرة وتمتد مساحته على شارعين أو أكثر.
نسبة تمثيل الطلاب المسيحيين والمسلمين بداخله كانت تقريبا نفس نسبة توزيع السكان بين الديانتين الأساسيتين في مصر، وبالتالي كنا نشعر أننا في مجتمع طبيعي، كل شيء يبدو فيه على ما يرام. المواد كانت تدرس أيضا بقسمة العدل، نصفها بالعربية ونصفها بالفرنسية كما جرت العادة لسنوات، ما يجعلنا متواصلين تماما مع الثقافتين منذ الصغر وجاهزين لمزيد من الانفتاح على الآخر، وهي صيغة بارعة يبدو أنها لم ترق للبعض، فظهرت مع الوقت مدارس لا تقبل سوى بأصحاب ديانة واحدة، ومؤخرا ارتفعت الدعوات لتغيير المناهج وعدم تدريس بعض المواد بلغات أجنبية والالتزام بمناهج الوزارة فيما يتعلق بالمستوى الرفيع سواء فرنسي أو إنجليزي أو ألماني، ما يعني القضاء على خصوصية هذه المدارس ومستواها، بل والاتجاه إلى مزيد من الانغلاق.
وهذا أمر مؤسف وغريب، إذ بدأت قصة مدارس إرساليات الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية، التي جاءت إلى مصر من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، في القرن التاسع عشر، تحديدا منذ عصر محمد علي، وصارت تدريجيا جزءا من المجتمع المصري، رغم بعض التوجس منها في البداية. وهناك حاليا 171 مدرسة كاثوليكية، تضم 275 ألف طالب وطالبة، وتوفر تعليما محترما في حدود المعقول، لا يجب نسفه بين يوم وليلة.
***
عشنا مع هؤلاء الذين تركوا الدنيا وزخرفها بحثا عن الخلاص، وشاهدنا عن قرب كيف أخذت تتناقص أعداد الرهبان والراهبات الأجانب، فلم تحظ الأجيال الأصغر سنا بمقابلة شخصية رائعة مثل الأخت إيمانويل التي وهبت حياتها لمحاربة الفقر وأعطيت الجنسية المصرية تكريما لعملها مع الأطفال وفي حي الزبالين، وقد كانت مشرفة على القسم الثانوي في مدرستي، وأتذكر كيف كان يوم رحيلها للعمل خارج أسوار المدرسة حدثا مدويا قابله كل من عرفها بالبكاء متمنيا لها التوفيق فيما اختارته. وقد توفيت عن عمر يناهز المئة عام في 2008، بعد أن كانت تجسيدا لمعنى "الله محبة".
المعنى نفسه كان يتردد في الترانيم التي تنطلق من كنيسة المدرسة، خاصة خلال قداس عيد الميلاد وفي فترة الأعياد. وكانت تبهرنا زخارف مجسم مهد المسيح التي اعتدنا أن نراها، فاعتدنا احترام ديانة الآخر ومعتقداته، وكان الاحترام متبادلا... كل طرف يعرف تفاصيل حياة وتقاليد الآخر، دون تطفل أو تطاول. المسلمون يصلون في المكان المخصص لذلك، كما هو الحال للمسيحيين، والأعياد للجميع. لذا لا أفهم بالمرة أن يعيش شخصان متجاوران، وهما لا يعرفان شيئا عن بعضهما البعض، ولا يتشاركان في بعض الطقوس، فلو فعلا وتعودا ذلك من الصغر لكان الوضع أفضل بكثير، ولردد الناس مع القطب الصوفي ابن عربي: "أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب ديني وإيماني".

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved