«Limbo».. عندما تعزف السينما أوجاع اللاجئين نشيدا للحياة

خالد محمود
خالد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 15 ديسمبر 2020 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

تحتل قضايا اللاجئين مكانة بارزة لدى بعض المخرجين فى اعمال السينما الحديثة، والتى اختلفت أساليبها الإبداعية والخلاقة فى تصوير ما يمكن أن نسميه كوارثها الإنسانية، ودائما ما كان يطرح التساؤل كيف يمنح هذا النمط من الأفلام بسرده القدرة على الحكى وإيقاظ مشاعر، ومؤخرا قدم الكاتب والمخرج بن شاروك فى فيلمه Limbo أو «التيه» الفائز بجائزتى أفضل فيلم والفيبريسى بمهرجان القاهرة السينمائى، عملا مميزا للغاية بلغة سينمائية مؤثرة بمفرداتها كاملة الاوصاف، دون افتعال أو خطاب مباشر، فقط استطاع أن يتوغل فى قلب المشاعر الإنسانية لشخوصه وأزماتهم التى انتقلت بسلاسة إلينا كمشاهدين، عبر صورة توحى بالكثير، وسيناريو ذكى، وحوار لمَّاح ممزوج بالفكاهة والحسرة والشفقة بنفس القدر؛ ليتمكن من تقديم حكايته، وبنبرة شاذة تبرز عمق قصته، ويثبت أنه قطعة سينمائية مؤثرة بحق.
الفيلم يدور حول مجموعة من اللاجئين النازحين عالقين فى جزيرة اسكتلندية نائية، فى انتظار مصير طلبات لجوئهم إلى بريطانيا، الوضع أصبح مضطربا للغاية، ليس لديهم مكان ثابت يذهبون إليه، ولا مكان يعودون إليه، هم فاقدو المعنى لماضيهم ولمستقبلهم، وفى مقدمتهم الشاب عمر، موسيقى سورى، ويجسد دوره باقتدار «أمير المصرى»؛ انفصل عن عائلته.. فوالداه فى إسطنبول، وشقيقه قد يكون أو لا يكون فى سوريا، حيث قرر «البقاء والقتال» عندما غادر عمر، كما أوضح خلال إحدى مكالماته العديدة لوالديه، فقد مر 32 شهرًا و5 أيام منذ آخر مرة سمع فيها صوت أخيه.
عمر الهارب من الوضع فى سوريا، نراه يقضى أيامه فى المشى ذهابًا وإيابًا عبر الجزيرة حاملا عوده المثقل بهمومه، تلك الآلة الموسيقية التى تشكل الرابط الوحيد لـ«عمر» بوطنه، حيث كان يعزف ويحلم؛ نادرًا ما يُرى بدونها، فهى تقريبًا جزء منه، رغم انه أصبح غير قادر على التعامل معها، تدور بينه وبين أسرته محادثات تليفونية نعرف منها انقسام هوية المجتمع فى بلده ما بين منضمين للقتال مثل أخيه، وما بين عدم القدرة على تحمل أعباء المعيشة مثل أبيه وأمه التى تطلب منه المال، لكن ليس لديه أى شىء، لا يمكنه العمل بدون اللجوء، ولا يزال ينتظر الموافقة على طلبه، عندما سأل والده عما إذا كانت الجزيرة الاسكتلندية التى أُجبر على الانتظار فيها «مثل جوانتانامو»، أجاب بأنه ليس كذلك، ومع ذلك، نعلم أيضًا أنها لا تزال سجنًا من نوع ما، حيث إن حياته معلقة إلى أجلٍ غير مسمى.
«متى ستذهب للبيت؟».. تسأل والدته، وهى تعلم أن وجهته الأخيرة، فى الوقت الحالى، كان من المفترض أن تكون لندن.. أجاب: «قريبًا»، مع ذلك، متى سيحدث ذلك لا نعلم!!.
حالة عمر المستحيلة، وكذلك رفاقه من اللاجئين تنعكس فى كل عنصر من عناصر الفيلم، حتى المناظر الطبيعية للجزيرة تبدو واسعة النطاق وخانقة فى آن واحد، لخلق تجربة إنسانية مذهلة، وقد حول المخرج الوطن والمستقبل إلى لوحة غامضة كما يتضح من خلال عيون عمر.
يقدم بن شاروك المخرج وكاتب السيناريو نفسه بأنه موهبة مثيرة للغاية، بأسلوبه الذى اتخذه فى تقديم فيلم عن اللاجئين، وهو يتطلع إلى خلق جو من الغرابة والسخرية بتسلسله المدهش، فنحن نرى مثلا كيف يُجبر طالبى اللجوء على تحمل درس فى الوعى الثقافى والمجتمعى من خلال شخصيتين محليين غريبى الأطوار، «هيلجا» وتجسدها الممثلة البريطانبة سيدس بابيت كنودسن، و«بوريس» وجسده كينيث كولارد، حيث يطرحان على اللاجئين كيفية استخدام الفعل «I used to» بشكل صحيح، عبر جملة يختارها الدارس وتكون لها اكثر من معنى وبأكثر من طريقة، وهنا يقول احدهم: «اعتدت أن أكون سعيدًا قبل مجيئى إلى هنا»، «كنت أبكى على نفسى كل ليلة، ولكن الآن لم يبق لى دموع».
«هيلجا» و«بوريس» يسعيان فى دروسهما المسرحية إلى تعليم طلابهم اللاجئين أى شىء، بدءًا من أساسيات العلاقة الحسية إلى الكليشيهات القديمة، التى عفا عليها الزمن حول المستقبل، مثل «كيف يمكنك أن تكون ما تريده لفترة طويلة بينما تعمل بجد بما فيه الكفاية»، نموذج الحلم الأمريكى الذى يبدو أشبه بالإهانة أكثر من كونه تشجيعًا.
ونحن نتعرف على رفقاء عمر فى الغربة يكشف الفيلم بشكل فكاهى عن تصرفات بعض شخصياته الباحثة عن حل، على سبيل المثال، يسرق أحدهم فرهاد افغانستانى الجنسية «فيكاش بهاى» ديكًا من مزرعة قريبة ليكون رفيقه، وينخرط واصف «القادم من السودان» علا أوربيى، فى جدال حول حلمه باللعب لفريق تشيلسى، والعراقى عبيدى، وبحساسية بصرية لافتة للنظر يرسم الفيلم صورة مثيرة للذكريات عن تجربة اللاجئين.
فكل منهم لديه شيء حكيم وهادف ليعلمنا إياه، يوضح لنا فرهاد أنه يمكنك إدراك تعبيرات الشخصيات حتى لو غطوا وجوههم، من خلال النظر فى عيونهم بحثًا عن علامات الحزن أو السعادة، ويحدثنا عبيدى: «تعلمون، لقد وضعنا أنفسنا فى وسط اللا مكان لمحاولة كسرنا»، فيما يتمتم عمر الذى لديه حكمته الخاصة «غدا مشمش»، والتى تستخدم بشكل عام لوصف الرغبة فى شىء لن يحدث أبدًا؛ حيث المناخ البارد مستمر طوال العام، هذا النوع الأكثر قسوة وواقعية يلخص حالته الذهنية فى الفيلم، وهو ينظر إلى نفسه ويبحث عن إجابة قد لا تأتى أبدًا.
من السهل تخيل دراما مفجعة تحاول أن تدفعك إلى البكاء، لكن المخرج بن شاروك لا يهتم لا بالشفقة على الذات ولا الخطابات السهلة، ويختار بدلا من ذلك السير فى منحنى حالة ذكية ساخرة مليئة بالإنسانية، نعم قد توجع قلبك لكنها تبقيك مبتسما حتى تستمر الدقات تنبض، نجد فى مقابل كل لحظة مشقة كان بطلنا تحملها، مثل عدم قدرته على عزف العود، بسبب جبيرة على يده، قبل ان يعود ليعزف فى مشهد نهاية، أبدع فى أدائه أمير المصرى ويستحق الاعجاب الكبير من الجمهور، الذى صفق له طويلا لروعة تقمصه ومعايشته للشخصية، وكأنه يعزف نشيد الأمل.. نشيد حياة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved