منظومة اجتماعية وسياسية جديدة فى السعودية

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الإثنين 16 يناير 2017 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة كارنيجى مقالًا لـ«محمد المشد» – الصحفى المتخصص فى شئون الاقتصاد السياسى للإعلام فى العالم العربى ــ يقول فيه إن خطط الخصخصة الاقتصادية التى تضعها السعودية بهدف تخطّى الاعتماد على النفط، تتوقّف على فتح المساحة السياسية فى البلاد. حيث يشكّل ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان رأس حربة الغزوات السياسية والعسكرية للمملكة فى المنطقة، لكنه أيضا المحرك الأساسى لتعديلات قد تحمل تغييرا أكثر عمقا فى البنية الاقتصادية والسياسية للملكة.
ففى ظل قيادته، أعلنت الحكومة عن «رؤية السعودية 2030» التى تسعى إلى تسيير البلاد نحو تنويع اقتصادى واسع النطاق، وتتضمن إجراءات لترشيد الإنفاق الحكومى خاصة فيما يخص بنود الدعم الاجتماعى والاقتصادى إلى جانب الأجور.
لكن الرؤية تفتقر إلى ترسيخ مبادئ الإصلاح السياسى والاجتماعى الطويل المدى الذى قد يكون ضروريا عندما ينتقل اقتصاد الدولة من الاعتماد الكلى على إيرادات النفط، وتحديدا تفكيك المنظومة السياسية والعقود الاجتماعية التى بُنيت حول توزيع الريوع النفطية.

إن الثروة النفطية التى تملكها السعودية هى من أسباب حفاظ النظام الحاكم على الاستقرار السياسى والاجتماعى طوال هذه الفترة. فقد استطاعت الحكومة أن تستخدم هذه الثروة واحتياطها البترولى الوفير لفرض نفسها على الساحة السياسية والدولية واكتساب ولاء العديد من الدول من خلالها، كما منحتها الوسيلة التى تتيح لها الاستمرار فى كسب رضا السعوديين بشكل عام. إلا أنه وكما يرى المشد أن هذه الدعامة المالية والسياسية ستنتزع مع تطبيق «رؤية 2030». ففيما تستعد المملكة للانتقال من اقتصاد ريعى نفطى إلى اقتصاد يستند إلى تنمية قطاعات أخرى منتجة (والذى بالضرورة يتطلب إلى تداول المعلومات كركيزة أساسية وإثراء المعرفة المحلية)، من الضرورى إرساء منظومة سياسية أكثر شمولا وإشراكا من أجل بلوغ أهداف التنمية الاقتصادية المعلنة. فالأمران مترابطان ولا يتحقق أى منهما من دون الآخر، لكن يبدو أن الإصلاح السياسى غير مدرَج فى الرؤية العامة.

لطالما كانت سياسات الحكومة وأنماطها فى الإنفاق مرتبطة ارتباطا وثيقا بسعر النفط وعائداته، وأثناء الطفرة فى أسعار النفط بين 2003 و2013، استثمرت الحكومة السعودية مبالغ طائلة فى التعليم والصحة والبنية التحتية إضافة إلى زيادة التوظيف فى القطاع العام، فضلا عن الرواتب الشهرية الضخمة التى يتقاضاها كل فرد من أفراد العائلة الحاكمة، وهى على الأرجح أكثر العائلات ثراء فى العالم. النظام الحاكم كان يشجع المواطنين بشكل دائم الحصول وظائف فى القطاع العام ذات الرواتب المرتفعة نسبيا، ما كان يثنيهم عن الانخراط فى أنشطة اقتصادية أخرى. وتباعا لم يتمكّن القطاع الخاص من استقطاب عدد كبير من المواهب المحلية، فالراتب فى القطاع العام كان بمعدل ثلاثة أضعاف الراتب فى القطاع الخاص بحسب بعض الدراسات.
فالدولة كانت دوما الراعى الأساسى للأمن المادى للمواطن، وليس فقط الجهة التى تزوّد المواطنين بخدمات عامة، ما عزّز قدرة الحكومة على الحفاظ على نظامها السلطوى الأحادى.

***
ينتقل الكاتب ليتحدث عما واجهته الحكومة السعودية فى الأعوام الثلاثة الماضية من عجز فى ميزانيتها المالية لأول مرة منذ نحو عقدَين، حيث تشير التقديرات إلى أن العجز فى العام 2016 تخطى 755 مليار دولار أمريكى. ويؤكد أن المملكة تأمل فى أن تساهم الخطة المطروحة ضمن «رؤية 2030» فى أن يصبح الاقتصاد أكثر نضوجا وازدهارا واستدامة، وذلك بقيادة القطاع الخاص. لكن التعديلات الاقتصادية وتغيير نمط النشاط العمالى للمواطنين من خلال هذه الآلية المقترح ستؤدى إلى ضرورة تعديل العقد الاجتماعى بين الحكومة والشعب أيضا. فكى يتمكن القطاع الخاص من المساهمة فى أكثر من 65 فى المائة من إجمالى الناتج المحليــكما هو التصور فى الرؤية ــ يجب أن تتحوّل قبلة العمالة فى اتجاه القطاع الخاص وأن تبتعد عن القطاع العام الذى كان يراه المواطنون فى السابق مضمونا بشكل أكبر برواتب أكبر، ولكنه يعانى من تدنّى الإنتاجية. كما يؤكد أنه كى تحقق الحكومة تنويعا فعليا فى مصدر إيراداتها، عليها توسيع المنظومة الجبائية، ما يقتضى غالبا توقُّع الفرد من حكومته التى ينفق عليها من ضرائبه، قدرا أكبر من المساءلة والمحاسبة. إلا أن النظام السعودى الذى لا يزال فى طور اختبار زيادة الضرائب على الدخل فى إطار خطة اقتصادية جديدة، لا يبذل على ما يبدو جهودا مماثلة لإحداث تحوّل فى المؤسسات السياسية كى تعكس تطلعات المواطنين فى الشفافية، وهو مبدأ غير دارج فى العهد الملكى الراهن. باختصار، يجب أن تتحول الحكومة ومنظومة الحكم من مؤسسات قائمة على رعاية الحكومة الكاملة لرعاياها، نحو إدارة أكثر تقليدية للميدان العام.

كما أن توقع المواطن باستمرار الحصول على الرعاية من الدولة قد يزيد التحول تعقيدا. حيث اعتاد المواطنون أن يروا فى الدولة والنظام الملكى الجهة «المُعيلة». وقد عزّزت الدولة تلك الصورة الذهنية فى السابق عبر تطبيق برامج اجتماعية واسعة واعتماد أساليب لتوزيع كمية من الثروة النفطية تؤدى غرض الحفاظ على الاتزان الداخلى. فى عام 2011، عندما اجتاح الربيع العربى المنطقة، وضع الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود هدايا وتحويلات نقدية على السكان تصل قيمتها إلى 37 مليار دولار بحسب تقارير. فى الوقت نفسه، خصّصت الحكومة نحو 130 مليار دولار لتمويل استحداث 1200 ألف وظيفة جديدة فى القطاع العام وبناء خمسمائة ألف مسكن. وزودت الحد الأدنى للأجور إلى 800 دولار فى القطاع العام، كما منحت جميع موظفى الخدمة المدنية زيادات فى الرواتب، ووضعت خطة جديدة لمساعدة العاطلين عن العمل. فى حين أن هذه التحويلات كانت فعّالة وأدت غرضها لتفادى أى اضطراب محلى خاصة أثناء شحن الشعوب بسبب الربيع العربى، لن تتمكّن الحكومة من تأمينها فى المستقبل خاصة مع الاتجاه الحالى للخفوضات فى الموازنة – لا سيما إذا أصبحت الموازنة أقل سيولةً مع الابتعاد عن الاعتماد على النفط. لكن ذلك لا يعنى أننا نُسقط من الاعتبار بعضا من وسائل الإنفاق العام الأكثر فعالية ومحققة لأهداف تنموية، مثل برامج موسعة للمنح الدراسية فى الخارج، والإنفاق المرتفع نسبيا على البحوث العلمية والبرامج الطبية. ولكن حتى هذه البنود فى الإنفاق العام أصبحت عرضةً لخفوضات الموازنة.

***
بالتالى يرى المشد أنه كى يتقبّل المواطن السعودى ذلك، يجب أن تكون المؤسسات الحكومية فى طليعة المبادرين إلى إجراء تغييرات جذرية. والنظام الملكى السعودى لا يسعى على ما يبدو إلى إحداث أى تغيير هيكلى فى نظام حكمه أو أسلوب إدارته، على الرغم من الشكل والأسلوب التقدمى الذى يظاهر به ولى ولى العهد. ولكن على النقيض، ثمة مؤشرات بأن النظام سيستمر فى عدم تقبّله لحرية التعبير والمعارضة السياسية فى المستقبل – لا سيما فى المسائل المتعلقة بالدين والأسرة الحاكمة، وتُظهر الإدانات القضائية الأخيرة وحتى أحكام الإعدام الصادرة فى قضايا على صلة بهذين الموضوعين، فالنظام الملَكى يتمسّك بشكل السلطة التقليدية القائمة على الدين والقبلية والنفط. حتى نشر أفكار التى من شأنها أن تتحدّى هذه المؤسسات أو تسعى إلى تطويرها بصورة تدريجية، مهدَّدٌ بمواجهة العراقيل، ما قد يولّد حاجزا فكريا بين النظام الملَكى والعالم الخارجى. السياسة السعودية شديدة التعقيد، من شأن التحرير الاقتصادى الذى يسعى إليه النظام الملكى أن يتطور بفعالية أكبر على أقل تقدير فى حال كان هناك انفتاح أكبر للتقدم على مختلف المستويات.

ويختتم المشد مقاله بأن فى الماضى، ركّزت السعودية على تطبيق سياسات مالية لمواجهة التقلبات الدورية، فى حين أن الحاجة إلى التغيير السياسى قد تكون ملحّة بالدرجة نفسها. ربما كسب النظام الملكَى بعض الوقت عبر إطلاق هذه الإجراءات، إلا أنه مع وجود الثروة النفطية (والطفرات الدورية فى الأسعار) مُنح النظام السعودى أداة مريحة للحفاظ على النظام القائم فى البلاد على الرغم من اقتصار الحريات السياسية على النذر اليسير، إلا أنه لن يستطيع الاستمرار على هذا المنوال فى الفترة المقبلة، لا سيما بعد الإقرار بوجوب تغيير المنظومة الاقتصادية.

النص الأصلى:

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved