«ترتيبات عشوائية».. أغنية جديدة للحنين!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 16 يناير 2020 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

تدهشنى دنيا كمال بهذه الطريقة التى تمنح فيها بطلاتها صدقا وقوة، وهشاشة وحنينا، فى الوقت ذاته، بطلات تجمعن بين الرومانسية والروح العملية، ولكنهن تعشن معلقات بين الماضى وذكرياته، والحاضر وإحباطاته، فى كتابات دنيا تعبير قوى عن الشخصيات من داخلها، وفيها أيضا إحساس شديد الحيوية بالزمن وتقلباته.
«ترتيبات عشوائية»؛ روايتها الجديدة الصادرة عن دار الكرمة، بطلتها تعانى من الفقد والرحيل، وتطاردها النهايات غير المكتملة، تماما مثل نادية بطلة «سيجارة سابعة»؛ الرواية السابقة لدنيا كمال، ولكن بطلة الرحلة الجديدة لا تعلن اسمها، وهى لا تسرد مباشرة للقارئ، وإنما تحكى من خلال خطابات لأشخاص، قد ترسل بعضها، وقد لا ترسل البعض، ولكنها تذكر أحباءها وتستأنس بالحكى لهم، وكأنها بذلك تحارب الوحدة بحضورهم ومخاطبتهم.
تحكى بطلتنا لأبيها الراحل، ولابنة أختها الصغيرة، ولصديقة مهاجرة إلى أمريكا، وتحكى لبطل قصة عاطفية عاشتها، قصصها محملة بتجارب شخصية، وبأحداث 15 عاما عاصفة فى حياة الوطن، يتداخل العام مع الخاص، تنضج الشخصية مع السنوات، ولكن يبقى دوما إحساسها بالاغتراب، بالحنين إلى الأب الراحل، بمزيج بين الألم والعبثية أحيانا، وبتسليم بنوع من العشوائية والمصادفات التى تصنع حياتها.
الأب هو محور السرد، ليس فحسب لأن خطاباته التى لن تصله بسبب موته مفعمة بالعاطفة والتفاصيل، ولكن لأن هذا الرحيل سيصبغ حياة بطلتنا طوال سنواتها القادمة، وكأنها سقطت من الأرجوحة، لم تعد قادرة على التوازن، الأب، فى «سيجارة سابعة» أو «ترتيبات عشوائية» هو الحياة نفسها، وغيابه هو الإحباط الذى لم يعوضه أى شىء، وهو حاضر دائما حتى لو غاب بالجسد.
تعيش بطلة الرواية الجديدة متنقلة من مدينة لأخرى، ورغم عملها فى مجال الأخبار الذى يجعلها فى قلب العالم، ورغم ذكريات سنوات ثورة يناير وما بعدها، فإن الشخصية تعيش فى داخلها معظم الوقت، وجميلة، ابنة الأخت الصغيرة، والتى يمكن أن تكون طريقا للمستقبل، تختفى الرسائل إليها تماما بعد حين، ليعود الحاضر مكتسحا من خلال زواج فاشل، وحكاية غرام أعقبها فراق، ومعركة قاسية ضد السرطان، لعل جميلة قد كبرت واستقلت، ولعلها عرفت أضعاف ما تحكيه خالتها فى الخطابات.
بطلة «ترتيبات عشوائية»، مثل بطلة «سيجارة سابعة»، تعافر حتى النهاية، وهى تحاول بقدر ما تستطيع أن تروض الحياة وفقا لنصائح الأب الغائب: «قلت لى أن أفعل كل ما أشعر أننى أحبه، وأن أظل فى دوائر الأحباب، وألا أفكر مرتين إن وقعت فى الحب فى يوم ما، وقلت لى إن المستقبل لا وجود له لأنه لم يأت بعد، وإن اللحظة التى نعيشها هى كل ما أملك، وقلت لى إن الأشخاص يختلفون عن بعضهم البعض، وإن الاختلاف نعمة، وإننى سأبحث دوما عن تلك الشرارة التى تحيط بهؤلاء الأشخاص لتجذبنى إليهم، وقلت لى أن أبتعد عندما تنطفئ الشرارات وعندما يصبحون أكثر مللا، وقلت لى إن العالم يمكن أن يكون مكانا رائعا إن قررت أن أراه بهذه الطريقة، قلت لى إن الحكايات لا تنتهى، وإن على فقط أن أمشى فى الكون الواسع وأبحث عنها».
وبين هشاشة امرأة تهرب إلى الحمام للبكاء، وقوة امرأة تستقبل المرض الخطير بكثير من الشجاعة، لا تستقر أبدا بطلات دنيا كمال، هن دائما فوق أرجوحة، وبينما تنتهى «سيجارة سابعة» وبطلتها تريد السفر إلى صديقة فى أمريكا، فإن «ترتيبات عشوائية» تجعل بطلتها فى شرفة فى بيروت: عين على دبى حيث مقر العمل، وعين على القاهرة التى لا يمكن الاستغناء عنها، وهناك عادة طائرة جديدة فى صباح جديد.
الساردة ووالدها بلا اسمين، ولكنهما أكثر حضورا من الجميع، وكأنهما امتزجا نهائيا مع دنيا كمال ووالدها، تؤثر فينا هذه المشاعر المتجددة، تمس فينا ذكريات الغائبين والراحلين، وتوقظنا على فكرة الموت الذى يؤثر أيضا على الأحياء.
ولكن الرواية مع ذلك ليست كئيبة أبدا، فيها طاقة للحياة وللمقاومة، وفيها ألوان من التجارب بين العشم والفشل، وفيها تدريبات على فهم وترويض الحياة والآخرين، وفيها ميلاد طفلة جميلة، وأغنيات ثومة، وأشعة تدمر الخلايا الخبيثة، وشعب ينتفض، وكنبة زرقاء تستدعى البهجة، وطائرة للمغادرة، وطائرة للعودة، وكتابة تعالج الجراح، حتى إذا كنا لن نرسل للآخرين ما كتبناه إليهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved