البلد الذى نريد

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الأحد 16 فبراير 2014 - 9:05 ص بتوقيت القاهرة

الدساتير تحدد مؤسسات الحكم فى الدولة المعنية وصلاحياتها، وتكشف القيم والمبادئ التى تهتدى بها هذه المؤسسات، والقواعد التى تحكم سلوكها والتفاعلات فيما بينها، ثم إن الدساتير تبيِن أين تتوقف سلطة الدولة وما هى الحقوق والحريات التى لا يتنازل الأفراد لها عنها، بل والتى هى مطالبة بصونها والعمل على تحقيقها. علم القانون الدستورى يدرس الأشكال المختلفة للمؤسسات ولتوزيع الصلاحيات عليها، ويكشف عن القيم والمبادئ وقواعد السلوك المختلفة فيما بينها، ويدقق فى سلطات الدولة وحدودها وفى الحقوق والحريات التى تصونها هذه الدولة أو تلك، وتؤمنها.

أما علم السياسة فهو يدرس واقع مؤسسات الحكم وممارساتها والتفاعلات فيما بينها، ويمحِص فى ممارسة الدولة الفعلية للسلطة الممنوحة لها، وينظر فى استمتاع المواطنين الفعلى بالحقوق والحريات المعترف لهم بها، وهو يحلل الأسباب التى أدَت إلى الواقع القائم. بعبارة أخرى، علم السياسة يدرس واقع تطبيق القواعد الدستورية، وهو واقع ناشئ عن قرارت مؤسسات الحكم، من جانب، وعن تفاعلات النظامين الاقتصادى والاجتماعى، اللذين يحتويان النظام السياسى، من جانب آخر، وأخيرا عن الآثار المتبادلة بين هذه التفاعلات وتلك القرارات.

قرارات مؤسسات الحكم، وهى القرارت السياسية، تؤدى أو لا تؤدى إلى تحقيق أهداف الدساتير، وهى تؤثر فى النظامين الاقتصادى والاجتماعى. مصر التى نريد هى بلد تشارك فيها القوى السياسية فى اتخاذ القرارت السياسية وفى الرقابة على تنفيذها، هى إذن بلد ديمقراطى، ليس لأن الديمقراطية صرعة أو زينة تقتبس من غيرنا من البلدان الأنيقة، وإنما لأنها الطريقة الأفضل لاتخاذ القرارت السياسية، وجوهر هذه القرارت هو استخدام الموارد المتاحة وتخصيصها من أجل تحقيق مصالح المواطنين.

•••

القرارات السياسية بشأن النظام الاقتصادى دقيقة كل الدقة. هى قرارت يجب أن تحترم المبادرة الخاصة، وأن تمسك عن إنشاء اقتصاد مركزى موجه لأن مثل هذا الاقتصاد قد ثبت فشله فى تحقيق المصالح المادية للناس، فضلا على أنه بتجميع أغلب خيوط الإنتاج والتوزيع فى أيدى الدولة يمكنها من التغوَل على حريات المواطنين والافتئات على حقوقهم. ولكن هذه القرارات السياسية ينبغى أن تنظم التفاعلات الاقتصادية وأن تتدخل لضبطها حتى يمكن تحقيق مصالح القطاعات الأكبر عددا، الأقل حظا والأكثر فقرا، من المواطنين. اقتصاد متخلف فى سوق مشوهة، تتفاوت الدخول فيه، وينتشر الفقر، وتتباين مستويات المعرفة، هو اقتصاد لن يقوى على الانعتاق من تخلفه، وبالتالى فهو لن يستطيع إنتاج الدخل والثروة التى تنتشل الفقراء من فقرهم، وتختصر الفوارق بين الناس ليصبح المجتمع أكثر تماسكا، وقادرا على خوض فترة طويلة من النمو الضرورى لتحقيق التنمية.

السوق لا تنظم نفسها بنفسها، وهى إن تركت لحالها لا تقّوِم تشوهاتها بل تزيدها تشوها على تشوه. تدخل الدولة ضرورى من أجل السوق الحرَة نفسها لأن السوق المشوهة لا تستطيع التوسع والنمو المطرِد. الفاعلون الاقتصاديون، ومنهم وبشكل خاص، مؤسسات القطاع الخاص، تستفيد من القرارت السياسية، أى من تدخل الدولة، لأنها تنشئ ظروف النمو أمامها. هذه دروس تستخلص من تجارب بلدان شرقى وجنوب شرقى آسيا فى التقدم الاقتصادى فى العقود الأربعة الأخيرة. فى كوريا مثلا تدخلت الدولة باتخاذ قرارات سياسية لتمكين القطاع الخاص من رفع مستوى إنتاجيته وكفاءة إنتاجه وتنوعه، من جانب، ولخلق الطلب الداخلى الفعال، من جانب آخر. هكذا استطاعت التجمعات الاقتصادية العملاقة المسماة بـ«التشيبول»، أن تنمو وأن تتعدى علميا وتكنولوجيا، وليس فقط كميا، شركات عتيقة كبرى فى الولايات المتحدة وفى أوروبا. لم يكن ممكنا أن تعتمد كوريا وتجمعاتها الاقتصادية على الأسواق الخارجية وحدها، لأنه كان ينبغى أولا تلبية احتياجات العمال الذين يشاركون فى إنتاج السلع والخدمات للأسواق الخارجية. لا يمكن أن يشارك العمال فى الإنتاج طالما كانوا محرومين من نصيب فيه. فى حالات الحرمان من نصيب عادل فيما ينتجون، يلجأ العمال للإضرابات وغيرها من أساليب الاحتجاج، فهل هذه ظروف يمكن فيها للقطاع الخاص أن يوسِع من إنتاجه، وأن ينوِعه، وأن يجوِد فيه؟ ثم إنه لا يصح الاعتماد اعتمادا كليا على الأسواق الخارجية العليلة أصلا فى الوقت الراهن، والتى تتنافس عليها كل الاقتصادات عملا بالوصفة نفسها للنجاح الاقتصادى. احتياجات الناس فى بلدنا متعددة جدا، وهى تشكل متسعا هائلا للطلب الداخلى ينبغى تنشيطه ليصبح طلبا فعالا يستفيد به القطاع الخاص مرتين، مرة بالإنتاج لتلبيته، ومرَة بتوفير الظروف لمشاركة العمال فى الإنتاج من أجل التصدير للأسواق الخارجية.

•••

تماسك المجتمع، وتجانسه، يتحققان عن طريق تضييق الفوارق بين الناس وبين المناطق وبين مجموعات السكان المختلفة. لا شىء يهدد التكامل الوطنى مثل التفاوت فى الدخول وفى التعليم وفى المشاركة فى إدارة الشئون العامة عن طريق تولى الوظائف السياسية والإدارية على كل المستويات.

ومصر التى نريد هى بلد يرعى الاختلاف، ويحتفل بالتنوع فى المناظير وبالتعدد فيها. التعدد والتنوع كانا دائما موجودين وإن أرادت أنظمة سياسية وأيديولوجية فى الماضى كبتهما فنجحت أحيانا وفشلت أحيانا أخرى، مكبدة البلدان والشعوب المعنية أثمانا باهظة من فرص تقدمها ومن سلامة أبنائها. ولكن التعدد والتنوع بلغا فى الوقت الحالى مبلغا هائلا ومستمرا فى التضاعف مع كل سنة تمرُ. أى محاولة لكبت التعدد والتنوع هذين لابدَ أن تلجأ للعنف اللفظى والمادى لأنه سيستحيل لجمهما بمجرد القوانين والضوابط الإدارية. العنف اللفظى والمادى يمزق نسيج المجتمع ويكسر تماسكه، وهو ما ينعكس على القدرة على الإنتاج فتصير المشكلة سياسية واجتماعية فى آن واحد. على أن الأكثر سخرية فى محاولات الكبت هو أنها لن تنجح لأنه لن تكون بها طاقة على الإحاطة بكل التعدد والتنوع فى عالم اليوم والغد وعلى اللحاق بمستجداتها. النتيجة فى هذه الحالة هى أن الناس سيدفعون من سلامتهم، من جانب، ومن الموارد الضرورية لتلبية احتياجاتهم، من جانب آخر، ثمن محاولات فاشلة للتحكم فيهم ولتنميطهم. فى مصر قوى سياسية واجتماعية دينية، وأخرى علمانية، وثالثة بين بين. وفى بلدنا يمين، ويسار، ووسط، بمختلف أطياف كل منهم. وفيها مجموعات منظمة أو غير منظمة تدعو لتحقيق مصالح أهل النوبة، ومختلف مناطق الصعيد، وشبه جزيرة سيناء، والقبائل العربية، وغدا قد تنشأ مجموعات لأبناء الواحات. وفى مصر تجمعات نقابية معترف بها قانونا وأخرى غير معترف بها، ومنظمات لأصحاب العمل تشترك فى بعض المصالح، وتتعارض فى مصالح أخرى. وفى بلدنا شباب من مختلف الأعمار، والخلفيات الاقتصادية والاجتماعية، والمستويات التعليمية، يعانى بأشكال متباينة من البطالة، ومن الفقر، ومن التهميش. وفى مصر نساء يعانين، مقارنة بالرجال، من معدلات أعلى للأمية، والفقر، والبطالة. وفى بلدنا مجموعات معنية بحماية البيئة وأخرى لا يقلقها التعدِى عليها. باختصار، المجموعات المنظمة أو غير المنظمة، التى تعبر عن مصالح عريضة أو ضيقة، كثيرة وفى ازدياد. ليس من الحكمة كبت التباينات بين المجموعات لأن هذا الكبت مستحيل ولن ينجح. العقل هو فى استيعاب التباينات فى النظام السياسى وفى إيجاد توليفة إجرائية لضبطها. الإخوان المسلمون وفريقهم لا يعترفون بالتباينات ويتجاهلونها. هذا التجاهل هو الذى أسقطتهم.

•••

ونحن نريد بلدا يثق فى نفسه، لا ترى مؤامرة عليه فى كل ركن، ومكر به فى كل زاوية. التوجس من الجميع يؤدى إلى الانعزال، وهو غير الممكن فى مصر المنفتحة منذ فجر تاريخها على شمالها، وشرقها، وغربها، وجنوبها.

نريد بلدا متصالحا مع نفسه ومع العالم من حوله. هل يمكن للقرارات السياسية لمؤسسات الحكم الجديدة أن تنشئ لنا هذا البلد؟ الرجاء هو أن تفعل لأنه السبيل الوحيد لنجاح النظام السياسى الناشئ ولتأمين استمراريته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved