فساد له تاريخ

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 16 فبراير 2017 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

الصحوة ضد الفساد تلقى استحسانا، وتبعث تفاؤلا، وذلك مبرر ومستحق، لكن ما نشر حول السلوك المالى لمجلس النواب سرعان ما نال من الاستحسان، وأحبط التفاؤل، ومع ذلك توجد فى هذه المفارقة «إيجابية منهجية»، نقصد بها الحاجة الماسة إلى التفريق بين الفساد الإدارى، وبين الفساد السياسى، وكلاهما شر بالطبع، لكن بعض الشر أهون من بعضه، وبعض الشر أصل، وبعضه الآخر فرع ينبثق من الأصل.

الفساد الإدارى هو فساد موظفين، مهما يعلو شأنهم..

والفساد السياسى هو فساد أصحاب السلطة منتخبين أو معينين، وهذا النوع هو الأخطر، وهو فى الوقت نفسه الأصل الذى تنبثق عنه جميع الممارسات الفاسدة، فى الجهاز الإدارى للدولة، أى دولة.

الفساد السياسى فى مصر له تاريخ طويل وحافل، لكن لا داعى للرجوع طويلا إلى الوراء، لأنه يكفى أن يبدأ رصدنا من لحظة قيام الحكم الدستورى عام 1923، لكى نتأكد أن السبب الرئيسى هو تركيز السلطة، وقدرتها الدائمة على تفريغ وسائل الرقابة القانونية والسياسية من مضمونها، وإبقائها حبرا على ورق.
كان الملك فؤاد مفلسا ومدينا قبل أن يعتلى العرش، ولم تمض سنوات قليلة حتى صار أكبر مالك للأراضى الزراعية، وغيرها من العقارات، وقصص استيلائه على أراضى الدولة، وأراضى أقاربه الأمراء تملأ كتب التاريخ.

وفى عهد فؤاد برز اسم إسماعيل صدقى باشا كأبرز المتربحين من المناصب السياسية، دون أن يستطيع أحد الاقتراب منه، ولم تكن قضية كورنيش الاسكندرية، وتعلية خزان أسوان، إلا أمثلة على استخدام السلطة السياسية الديكتاتورية لصدقى باشا وأمثاله لتحقيق مصالح خاصة.

لهذا السبب كان الضلع الثالث فى برنامج أية حكومة تسعى إلى الشعبية هو ما سمى وقتها «بنزاهة الحكم»، أما الضلعان الآخران، فكانا إجلاء الاحتلال البريطانى، واحترام الدستور.

أما نماذج الممارسات الفاسدة فى عهد الملك فاروق، فقد تواترت، خاصة فى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأشهرها بالطبع قضية الأسلحة الفاسدة فى حرب فلسطين التى ثبت فيما بعد أن المبالغات فيها أكثر من الحقائق، وكذلك الإطاحة بحكومة نجيب الهلالى الأولى، مقابل رشوة للملك نفسه، وكان برنامج هذه الحكومة الوحيد هو مكافحة الفساد، بما كان يعنيه ذلك من تحصيل الضرائب المستحقة على عبود باشا، وغيره من رجال المال والأعمال والصناعة، ثم كانت هناك قضية التلاعب فى بورصة القطن من وزراء كبار، ولا نتوقف هنا كثيرا عند اتهامات مكرم عبيد لزعيم الوفد والأمة مصطفى النحاس باشا فى معركة «الكتاب الأسود»، ليس لأنها مؤامرة دبرها القصر للإساءة للنحاس، فهذا معروف، ولكن لأن الاتهامات كانت مضحكة (بمعايير زماننا الحالى)، إذ انحصرت هذه الاتهامات فى بعض الترقيات الاستثنائية لموظفين موالين للوافد، وفى استخدام «تليفونات وتلغرافات» الحكومة فى شراء جاكيت فرو لزوجة رئيس الحكومة من الخارج.

الشاهد فى هذه الأمثلة وغيرها كثيرا هو أن الفساد فى العصر الملكى كان إما من صنع الملك ورجاله، أو من خصائص حكومات الأقلية الديكتاتورية، وهذه الحكومات كانت تستمد قوتها من القصر الملكى لا من الشعب، ومن يرجع إلى المذكرات الشخصية لزعماء وساسة ذلك الزمان (ولا أقول الوثائق) يكتشف أنهم جميعا، وبلا استثناء يعترفون للنحاس باشا، ولسلفه سعد زغلول باشا بطهارة اليد، ونزاهة الحكم، بمن فى ذلك زعماء أحزاب الأقلية أنفسهم.

ومع استيلاء ضباط يوليو 1952 على السلطة، انتقل تاريخ الفساد السياسى فى مصر إلى طور آخر، فإذا كان جمال عبدالناصر نفسه بشخصه وأسرته وأقاربه قد ظلوا فوق الشبهات، فإن ذلك لم يكن حال الكثيرين من رجال نظامه، خاصة رجال عبدالحكيم عامر، الذين اضطروا عبدالناصر إلى أن يشبه حماية عامر لهم بسلوك شيوخ خفراء القرى الفاسدين الذين يحمون «اللصوص» ما داموا موالين لهم.

وكانت ممارسات الفساد الشائعة من بعض رجال العهد الناصرى تتمثل فى الاستيلاء على أموال ومجوهرات وعقارات الخاضعين للمصادرة ولحراسات، واختلاسات هنا وهناك من أموال القطاع العام، لكن الانصاف يقتضى أيضا الاعتراف بأن جميع رجال الصف الأول فى نظام يوليو (فى عهد عبدالناصر ) لم يكونوا ثروات تستلفت النظر من مناصبهم.

ومع ذلك يتكرر هنا الشاهد على أن ممارسات الفساد السياسى تحت حكم جمال عبدالناصر ــ على محدوديتها ــ قد جرت كلها بسبب الطابع الديكتاتورى للنظام، الذى غيب رقابة الشعب، واحتكر داخله أدوات الرقابة والمساءلة، بعيدا عن القضاء، والبرلمان، والرأى العام، لتصبح هذه هى القاعدة الذهبية مع كل الرؤساء التالين، ولتصبح أيضا من أهم أدوات الرئيس فى السيطرة على المؤسسات والرجال.

ومع خلافة أنور السادات لعبدالناصر، وإطلاق سياسة الانفتاح الاقتصادى، تحول الفساد إلى استراتيجية مقصودة، فمن ناحية قدر الرئيس، ومعاونوه أن السياسات الاقتصادية الجديدة سوف تؤدى بالضرورة إلى بعض الممارسات الفاسدة ،أى أنه لابد مما ليس من بد، ومن ناحية أخرى، وتحت تأثير النصائح الأمريكية اقتنع السادات أن التساهل فى البداية سوف يعيد تكوين الطبقة الرأسمالية التى صفاها سلفه، فتعود هذه الطبقة إلى قيادة التنمية فى البلاد، وبذلك تسهم هذه كجماعة مصالح مستجدة فى حماية النظام الساداتى ككل فى مواجهة المد اليسارى، والذى يبدو الآن أن الرجل كان مبالغا فى تقدير حجمه وخطورته.

هكذا تفشت صور الحماية الحكومية المبطنة للفساد، فجرى توزيع التوكيلات التجارية بطريقة انتقائية، والتهاون فى إغراق السوق بسلع استهلاكية أغلبها كان تافها، إلى اعتماد مبدأ العمولات فى الصفقات الداخلية والخارجية، وإرساء المناقصات والمزادات الحكومية، ومنح القروض المصرفية بتدخلات حكومية.

وكان الرئيس يطيح، بل ويشهر أحيانا، بوزرائه الذين يحاولون ترشيد الانفتاح والتصدى للفساد، فهكذا فعل مع الدكتور عبدالعزيز حجازى حين حاول أن يتصدى لصفقات المحاسيب، ومع الدكتور رفعت المحجوب حين تحدث عن «القطط السمان»، ثم مع الدكتور محمد زكى شافعى، والدكتور على لطفى والدكتور أحمد أبو اسماعيل، ثم لحق التشهير والإطاحة بجهاز الرقابة الادارية نفسه، ولم يلفظ السادات أنفاسه، إلا وكان قد استهلك كل رجال الصف الأول من أساتذة وخبراء المالية والاقتصاد فى مناصبه الحكومة اختيارا، ثم إقالة، ولذا شهدت السنوات الواقعة بين عامى 1974 (عام الانفتاح) وعام 1981 (عام اغتيال السادات) قيام وسقوط 4 حكومات، و6 مجموعات اقتصادية وزارية.

لكن الذى فات السادات، وأحبط حلمه بتكوين طبقة رأسمالية تقود التنمية الاقتصادية فى مصر على غرار الرأسمالية الأمريكية التى تكون جزء كبير منها بالفساد والنهب، أن الفاسدين الأمريكيين كانوا يستثمرون ما سرقوه فى أمريكا نفسها، أما الفاسدون المصريون فكان تهريب الأموال إلى الخارج أكثر فائدة وأمانا لهم من الاستثمار فى داخل مصر، وهكذا تسربت أرباح الصفقات، والتدفقات النقدية الخارجية إلى البنوك والأسواق الأوروبية والأمريكية، فيما عرف بالنهب الثانى لمصر.

ويأتى مبارك متفهما أن الفساد هو الذى قضى على شعبية السادات، فسعى إلى بناء شعبية وشرعية جديدتين بوعود مكافحة الفساد، وتحويل الانفتاح الاستهلاكى إلى انتاجى، ويقول فى أول خطاب له «إن الكفن ليس له جيوب»، ويعيد جهاز الرقابة الادارية إلى الحياة، فتنبعث الآمال من جديد فى انطلاقة اقتصادية رشيدة وناجحة ونظيفة، خصوصا مع «عقد المؤتمر الاقتصادى» بمبادرة منه.

لكن لأن النظام بقى هو نفسه، أى هو النظام المغلق على ذاته، المعبأ حول شخص الرئيس، الذى يحتكر أدوات الرقابة والمساءلة داخله بعيدا عن البرلمان والرأى العام والقضاء، سرعان ما أصبح فساد عصر عبدالناصر ذكرى باهتة، وكذلك أصبح فساد عصر السادات حالات فردية قياسا إلى ماحدث بعد ذلك.

فبعد أن كان الفساد يمارس تحت بند غض الطرف، أملا فى تكوين رءوس أموال، تحول إلى عرف ثم إلى قانون، ثم إلى قيمة اجتماعية مقبولة، بل ومرحب بها لتصبح السلطة مصدرا للإثراء، ويصبح الثراء مؤهلا للسلطة.

أراضى الدولة توزع بعشرات آلاف الأفدنة على المحاسيب، والدولة تبيع المصانع تحت اسم الخصخصة لفئة أخرى منهم بأبخس الأثمان، كما تبيع البترول والغاز، وترعى شركات لتصديرهما بأسعار مشينة بكل معنى الكلمة، ليدخل الفارق إلى جيوب الأقارب والمقربين وزبائنهم الأجانب، وكذلك تفعل فى قروض البنوك، وعندما يوشك النظام المصرفى على الانهيار، ويتجرأ بعض نواب البرلمان على استجواب الحكومة حول «الظاهرة» يتدخل الرئيس، ويطلب بنفسه فى رسالة رسمية تأجيل الاستجواب، حتى لا تهتز الثقة فى المصارف الوطنية، وابن الرئيس يتاجر فى ديون مصر، وابنه الآخر يصبح من كبار رجال الأعمال، ويتشارك الاثنان ــ كما نشر ــ فى تأسيس شركات عنقودية فيما وراء البحار يكسب الدولار الواحد فيها عشرة دولارات وأكثر، فضلا عن الأموال المودعة فى البنوك الأجنبية، والرشاوى المدفوعة من زعماء أجانب مقابل صفقات سياسية غير مشرفة، كتسليم معارضين، وإبلاغ عن آخرين.

كل ذلك، وغيره مما لا نعلمه جرى لسبب واحد هو أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وهذا هو ما يثبته تاريخ مصر، وتاريخ كل دول العالم، ولذا فإذا كان حسنا أن نكافح الفساد الإدارى، فالأحسن والأجدى حتى فى مكافحة فساد الإدارة هو مكافحة الفساد السياسى، أو سد منافذه، وليس لذلك طريق سوى المعمول به فى كل الدول الناجحة وهو إطلاق آليات الرقابة والتوازن بين المؤسسات الدستورية بلا قيد ولا شرط ،بداية من مجالس القرى والأحياء فى مواجهة المسؤلين المعينين، وحتى مجلس النواب فى مواجهة الحكومة، ومن الرقابة الإدارية حتى الجهاز المركزى للمحاسبات، وبصراحة فهذا هو الإنجاز التاريخى المطلوب فى مصر الآن، أكثر حتى من أعلى معدل متصور للنمو الاقتصادى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved