حرب لا صمدنا فيها ولا تصدَّينا

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الإثنين 16 مارس 2009 - 4:40 م بتوقيت القاهرة

فى حرب الأفكار نحن لا صمدنا وتصدينا، وإنما استسلمنا بسرعة غريبة، جعلت أغلب الصحف العربية تحمل إلينا كل صباح أنباء انكسارنا وهزيمتنا.

(١)

فى الرابع من شهر يناير الماضى نشرت «الأوبزرفر» البريطانية تقريرا لم ننتبه إليه فى حينه، ذكر أنه مع بداية الحرب على غزة بادرت الحكومة الإسرائيلية إلى إنشاء إدارة خاصة للتأثير على وسائل الإعلام المختلفة، رأسها دان جيلرمان السفير الإسرائيلى السابق لدى الأمم المتحدة، وعاونه فى مهمته ممثلون عن وزارتى الخارجية والدفاع ومكتب رئيس الوزراء إضافة إلى الأجهزة الأمنية التابعة للجيش والشرطة. أضافت الصحيفة أنه ما إن بدأت الحرب حتى بادر فيض من الدبلوماسيين ومجموعات الضغط والمدونات الإلكترونية ومختلف العناصر المؤيدة لإسرائيل بإغراق وسائل الإعلام المختلفة بسلسلة من «الرسائل» التى تمت بلورتها بدقة مسبقا. وكان هدف الجميع هو تبرير الموقف الإسرائيلى والدفاع عنه.

هذا الجهاز كانت مهمته الحقيقية هى الكذب والتدليس ومحاولة التستر على الوجه القبيح للحرب الإجرامية، بالإدعاء تارة بأن ما أقدمت عليه إسرائيل كان دفاعا عن النفس (وهو الموقف الذى انحاز إليه الكونجرس ودول الاتحاد الأوروبى) وتارة أخرى باتهام حماس بأنها التى خرقت الهدنة، وأن صواريخها هى التى تسببت فى إغلاق المعابر وحرمان سكان القطاع من احتياجاتهم المعيشية. ومن أشهر الادعاءات التى روج لها الجهاز أيضا أن إسرائيل لا تستهدف الفلسطينيين وإنما تريد وقف «الإرهاب» الذى تمارسه حماس، وأنها فى الوقت ذاته تريد ضرب «النفوذ الإيرانى» الذى وصل إلى غزة فى وجودها.

هذه الأكاذيب استفَّزت اثنين من الباحثين الغربيين المحترمين، فتصديا لتفنيدها، وكشف الغش والخداع فيها. كان أولهما اليهودى الأمريكى هنرى سيجمان الذى نشر مقالا تحت عنوان «الأكاذيب الإسرائيلية» فى مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس» (٢٩\١). أما الثانى فهو الفرنسى دومينيك فيدال، الذى نشرت له مجلة «لومند دبلوماتيك» (عدد أول فبراير) مقالا تحت عنوان «كلما كانت الكذبة كبيرة». موقف المقالين واضح فى عنوانيهما، أما مضمونهما فقد كان كاشفا ومفحما، ومن ثم فاضحا للكذب والإجرام الإسرائيليين.

(٢)

هذه الخلفية تستدعى ملاحظتين، أمر بهما بسرعة قبل أن أصل إلى مقصود الكلام ومراده. الملاحظة الأولى تفاجئنا وتفجعنا فى ذات الوقت. وهى أن الإعلام المصرى الرسمى والسعودى بوجه أخص ومعهما عدد من المثقفين العرب وقعوا فى الفخ، وكانوا فى مقدمة الذين تأثروا بحملة الجهاز الإعلامى الإسرائيلى بدرجة كبيرة، حتى أتمنى أن يفرغ أى باحث بعض الوقت لرصد عناوين وأخبار وتعليقات الصحف الصادرة فى فترة الحرب على غزة ليكتشف مدى تأثرها بتلك الحملة. وللتذكير فقط فإن إعلامنا وبعض مسئولينا هم الذين لم يكتفوا طول الوقت عن ترديد الادعاء الذى أثبت المقالان اللذان أشرت إليهما كذبه، والقاضى بأن حماس هى التى خرقت التهدئة ــ وهم من شدد من الحملة على حماس بأكثر مما تضامنوا معها فى مواجهة العدو الإسرائيلى. وهم من ظلوا يوحون بأن حماس أداة فى يد إيران وجزء من المشروع «الفارسى»، حتى إن مسئولا مصريا ذهب فى تصديقه لهذه الدسيسة إلى حد إدعائه بأن إيران بوجودها المزعوم فى غزة أصبحت ترابط على الحدود المصرية!

الملاحظة الثانية أن ما أقدمت عليه إسرائيل أثناء الحرب على غزة ليس اختراعا جديدا، ولكنه أسلوب متعارف عليه فى الصراعات الدولية، التى أصبحت الحرب النفسية إحدى جبهاتها الأساسية. وهو ما يوثقه باقتدار كبير كتاب «الحرب الباردة الثقافية» لمؤلفته فرانسيس ستونز سوندرس (ترجمه إلى العربية طلعت الشايب)، الذى كان موضوعه الأساسى تتبع الدور الذى لعبته المخابرات المركزية الأمريكية فى التصدى للاتحاد السوفيتى والشيوعية، فى مجالى الفنون والآداب، وكيف أنها نشطت فى تلك الساحة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومنذ إنشاء المخابرات فى عام ١٩٧٤ كانت الصحف والكتب والإذاعات والحفلات الموسيقية والعروض الفنية المختلفة هى وسيلتها إلى ذلك. ومن بين الواجهات التى أقامتها المخابرات المركزية «كونجرس الحرية الثقافية» (عام ١٩٥٠) الذى تحول لاحقا إلى «الاتحاد الدولى للحرية الثقافية»، وانشأ فروعا فى ٣٥ دولة، كما أصدر أكثر من عشرين مجلة ثقافية محترمة فى مختلف أنحاء العالم، كانت كلها تروج للنموذج الأمريكى وتنفر من الشيوعية. كما كانت المخابرات الأمريكية وراء إنشاء «نادى القلم الدولى» فى منتصف الستينيات، الذى مد أذرعه إلى ٥٥ دولة، وأسس فيها ٧٦ فرعا، كانت كلها ذات أنشطة «ثقافية» استهدفت كسب معركة واشنطن ضد موسكو.

(٣)

فى أول شهر فبراير الماضى نشرت صحيفة «الشروق» مقالا للدكتور محمد السيد سليم أستاذ العلوم السياسية كان عنوانه: «الحرب على غزة، أو العدوان بالمصطلحات»، عرض فيه للفكرة التى نحاول إبرازها هنا، حيث دعا الجميع إلى ضرورة التدقيق فى المصطلحات التى يسربها الغربيون والصهاينة إلى خطابنا الإعلامى والسياسى، سواء للتغطية على الاحتلال أو لإضفاء شرعية عليه. وأشار فى مقاله إلى أن الحرب بالمصطلحات فى الوطن العربى بدأت مع زيارة هنرى كيسنجر للمنطقة فى عام ١٩٧٣، حيث استخدم لأول مرة مصطلح «عملية السلام» فى الشرق الأوسط، الذى لم يكن يعنى إقامة السلام بقدر ما يعنى عقد سلسلة من الإجراءات المتتالية تنتهى بإقرار السلام يوما ما. قد يجىء أو لا يجىء (بدليل أنها مستمرة إلى الآن ولم يتحقق من السلام شىء). وكانت النتيجة أن «العملية» بمعنى المفاوضات والمشاورات والجولات الأمريكية استمرت، لكن السلام لم يتحقق. قس على ذلك مصطلحات أخرى عديدة ظاهرها يوحى بشىء فى حين أنه يضمر شيئا آخر. فإسرائيل لا تنسحب مما تزعمه أرضا لها فى سيناء، ولكن ذلك يعتبر من جانبها مجرد «إعادة انتشار» أو فض اشتباك. كما أن «المستوطنات» وصف خداع أريد به تجميل وجه المستعمرات. والتطبيع مصطلح خبيث وملتبس، لأن العلاقات الطبيعية بين الدول تحتمل معنيين أحدهما يقوم على التعاون السلمى والثانى قد يكون صراعيا، لكنه فى المناخ الراهن أصبح ينطبق على حالة واحدة هى التعاون السلمى، الأمر الذى يعتبر المقاومة سلوكا «غير طبيعى»... وهكذا.

الملاحظة المهمة التى خلص بها الدكتور سليم من استعراضه لنماذج اللعب بالمصطلحات فى الصراع العربى الإسرائيلى بوجه أخص، هى أن اللغة تستخدم كأداة للتضليل والإبهام، وليس كأداة للتوصيل. بمعنى أن المصطلحات المستخدمة عادة ما تخفى فى طياتها أهدافا شريرة، فى حين يبدو ظاهرها بريئا وناعما. وهو ما ينطبق على قائمة طويلة من المصطلحات التى أصبحت تتردد على ألسنة مسئولينا وتتناقلها وسائل إعلامنا كل يوم.

(٤)

خذ مثلا مصطلح «التهدئة» الذى أشرت إليه فى مقال سابق. إذ استخدم فى مطالبة المقاومة بتجميد حقها فى الدفاع عن نفسها فى مواجهة الاحتلال، ومن ثم وقف إطلاق الصواريخ ضد العدو، مقابل فك الحصار عن قطاع غزة، ولأن المصطلح لا أصل له فى القانون ولا فى الأعراف الدبلوماسية، فقد عملت إسرائيل على «تفصيله» فى ضوء موازين القوة الراهنة، بحيث تصبح التهدئة واجبا يلزم المقاومة الفلسطينية وحدها، ولا يلزمها هى فى شىء، باعتبارها الطرف الأقوى عسكريا. وكانت النتيجة أن صورايخ المقاومة سكتت فى حين استمر الحصار وتواصلت عمليات التصفية التى قامت بها إسرائيل فى القطاع.

المدهش فى الأمر أن فصائل المقاومة حين قالت إنها لا تقبل بالالتزام بالتهدئة فى ظل استمرار الحصار والعدوان، فإن بعض العواصم والأبواق العربية توجهت إليها باللوم والاتهام.

خذ كذلك تلك الدعوة الغريبة إلى الوقف الدائم لإطلاق النار، التى تبدو فى ظاهرها إعلانا عن الرغبة فى إحلال السلام والوئام فى فلسطين، قد تلقى ترحيبا وأذنا صاغية فى الأوساط الغربية، إلا أنها تعبر فى جوهرها عن درجة عالية من الصفاقة، ذلك أنها تطالب المقاومة بإلقاء سلاحها، والاستقالة من دورها، و«نبذ» فكرة تحرير البلد من الاحتلال.
خذ أيضا مصطلح «وقف تهريب السلاح» إلى غزة، وهى الدعوة التى أطلقتها إسرائيل مؤخراً، وحركت لأجلها الدول الغربية التى استنفرت لهذه الغاية، وتنافست فى إرسال سفنها وبوارجها لمراقبة مختلف المنافذ التى يمكن أن يصل منها السلاح إلى القطاع. وهى دعوة خبيثة لا نفهم كيف مررتها العواصم العربية وسكتت عليها. ووجه الخبث فيها واضح. ذلك أنها تعنى حرمان المقاومة الفلسطينية من حقها فى الدفاع عن نفسها لتحرير الأرض المحتلة، الذى كفلته لها جميع المواثيق والاتفاقات الدولية. ثم إنها تخدع الجميع موحية لهم بأن المشكلة فى فلسطين هى تهريب السلاح وليس الاحتلال الذى اضطر الناس إلى الحصول على السلاح بكل السبل لمقاومته.

خذ أيضا مسألة «المجتمع الدولى»، الذى دعا أبو مازن إلى ضرورة استجلاب موافقته على أى حكومة وطنية تتشكل فى فلسطين. ويلحق به مصطلح «الشرعية الدولية». وكل منهما لا يخلو من رنين جذاب، لكنه عند تفكيكه لا يعدو أن يكون إرادة أمريكية تحركها المصالح والحسابات الإسرائيلية. (للعلم فإن حق مقاومة الاحتلال بكل السبل يستند إلى الشرعية الدولية وكذلك قرار محكمة العدل الدولية ببطلان إقامة الجدار والمستوطنات فى الأرض المحتلة ــ وقد أورد عدد أول فبراير من مجلة «لومند دبلوماتيك» قائمة بـ٣٥ قرارا لمجلس الأمن، والجمعية العامة انتهكتها إسرائيل أو رفضتها). هذان المصطلحان يفقدان حجتيهما وهيبتهما حينما نكتشف أنهما يشكلان غطاء للمطالب الإسرائيلية فى الاعتراف بها وبمنع المقاومة والإقرار بالتنازلات التى سبق تقديمها لإسرائيل. ومن حقنا فى هذه الحالة أن نطالب بتنفيذ كل قرارات الشرعية الدولية الأخرى، بغير انتقاء أو استعباط.

خذ أخيرا مصطلح «الدول المعتدلة»، التى ما برح الإسرائيليون يتحدثون عن التعاون معها والحفاوة بها فى العالم العربى، حتى دعت وزيرة الخارجية تسيبى ليفنى إلى مساندتها فى لقائها فى ٢٦\٢ مع المبعوث الأمريكى جورج ميتشل. ذلك أن مصطلح الاعتدال يفقد براءته ونزاهته حين يصبح شهادة إسرائيلية لبعض الأنظمة العربية، الأمر الذى يسوغ لنا أن نقول إنه إذا كان مقتضى الاعتدال موالاة الإسرائيليين ومن لف لفهم من الأمريكيين ومن ثم التنكر للحقوق الأساسية للشعب الفلسطينى، فان الوطنيين والشرفاء يجب أن يترفعوا عنه، وأن ينخرطوا فى صف «التطرف» الذى يريدون به وصم المقاومة والممانعة.

لقد هزمت نظمنا فى الفعل، وحظها فى القول كما رأيت، الأمر الذى يحولها من ظاهرة صوتية إلى ظاهرة جغرافية لا أكثر.  

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved