الدولة العصرية

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الخميس 16 مارس 2017 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا لـ«ناصر زيدان» ــ أستاذ العلوم السياسية والقانون الدولى العام بالجامعة اللبنانية ــ حول شكل الدولة الحديثة والذى قد تغير مع مرور الوقت وهو ما أدى إلى تغير عدد من الاعتبارات والمحددات تتلاءم والواقع الحالى.
يستهل الكاتب المقال بأن الاعتبارات التى تحكم المسئولية القانونية والأخلاقية للقيمين على إدارة الدولة تجاه المواطنين، أصبح لها معايير قانونية ملزمة، وغابت المقاربة التى تنظر إلى الحاكم كأنه منزه عن الأخطاء. كما اختفت النظرية القديمة التى كانت تعتبر أن المواطنين هم رعايا للدولة، ويجب أن يكونوا فى خدمتها، وبالتالى فى خدمة سياسة الحكام، بل أصبحت الدولة ذاتها أداة لخدمة الشعب، والسهر على راحة المواطنين.
فى الدولة العصرية، اختفت ظواهر تلزيم المرافق العامة لمصلحة أشخاص، بهدف استثمارها، أو تشغيلها بمردود مالى لمصلحة الحاكم؛ حيث كانت تُلزم جباية الضرائب، ورسوم الخدمات العامة، كما مياه الينابيع والطرقات، ليستفيد منها الإقطاعى، ويدفع «الميرى» أو الجزية للسلطان. الدولة العصرية أصبحت دستورا وقوانين وأنظمة، لا يمكن الوصول إليها إلا عبر مسار ديمقراطى يتأكد من خلاله أن هذه القوانين صادرة بإرادة الشعب الذى تتكون منه الدولة لتتنفذ على الإقليم الأرضى المحدد لها.
المسار الديمقراطى فى الدولة العصرية، لا يعنى بأى حال من الأحوال أنه عملية إجرائية رقمية، تعتمد على التصويت، أو على الاقتراع فقط، بل إنها عملية معقدة أحيانا، فيها إجراءات مختلفة، يمكن أن تكون عبر «التصويت العددى» (أى الإدلاء بالصوت فى صندوق الاقتراع)، ويمكن أن تكون من خلال الاستفتاء الذى يأخذ الطابع الحزبى أحيانا، أو المبايعة كما فى الأنظمة الملكية والأميرية عندما يتم تنصيب الملك الجديد، ويمكن أن تكون عن طريق الديمقراطية المباشرة، أى عبر المؤتمرات الشعبية، حيث يتجمع الناس فى أماكن محددة للإدلاء برأيهم فى قضية معينة.
ولكن الغالب الذى تم اعتماده على نطاق واسع فى الدول الحديثة، هو نظام الديمقراطية بالتصويت وفق قانون محدد لاختيار ممثليهم، أو لإعطاء رأيهم فى قضية عامة، ويمكن للقانون الذى ينظم عملية الانتخاب ألا يشمل كل المواطنين، أو أن يحمل بعض الشروط الشخصية لحق الاقتراع. وهناك مراحل مختلفة لعملية التصويت أيضا، بحيث ينتخب المواطنون ممثليهم فى أماكن سكنهم، ومن ثم ينتخب هؤلاء الممثلون نوابا عنهم، والنواب ينتخبون رئيسا.

***
على صعيد آخر وفيما يتعلق بخصائص الدولة العصرية يذكر «زيدان» أبرزها فيما يلى:
1 ــ الحكم الجماعى: ذلك أن الفردية، لا يمكن اعتمادها فى إدارة الدولة الحديثة، ولم يعد شعار «ما هو لمصلحة القيصر يعنى أنه لمصلحة الدولة» قابلا للحياة، لأن نظرية المصدر الإلهى للسلطة التى كان يروج لها بعض الأباطرة والملوك سقطت، والمبايعة المطلقة غابت إلى غير رجعة. فالعصرية فرضت تعدد السلطات فى الدولة الواحدة مهما كان نوع نظام الحكم فيها «فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة». لذلك فإن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، هى مستوجبات عصرية، يجب أن تتوافر كحد أدنى فى أى دولة، ولكل من هذه السلطات أطر ومحددات لا يمكن أن يقوم بها شخص واحد، بل إنها تفرض وجود أشخاص عدة. على سبيل المثال: مجلس النواب (سلطة تشريعية)، ومجلس الوزراء (سلطة تنفيذية)، ومجلس القضاء الأعلى (سلطة قضائية)، وكلّ من هذه المجالس يتألف من مجموعة أشخاص.

2 ــ فصل السلطات: والحكم الجماعى الذى يتوزع على مجموعة أشخاص فى أطر مجلسية، أو الذى يعتمد النظام الرئاسى، يفرض فصلا للسلطات فى الدولة، ومن دون هذا الفصل لا يمكن أن تستقيم الأمور فى الدولة العصرية؛ ذلك أن تشابك الصلاحيات يؤدى إلى ديكتاتورية مقنعة أحيانا، وإلى فوضى ونزاعات أحيانا أخرى، لكن فصل مهام السلطات بعضها عن البعض الآخر يفرض تعاونا بين هذه السلطات لتسيير شئون الدولة.

3 ــ رعاية مصالح الشعب: يُفترض بالدولة العصرية، فضلا عن نمطية الحكم الجماعى وفصل السلطات، أن يكون لها دور الراعى لمصالح الشعب الذى تمثله. فالدولة التى لا يكون هدفها الأساسى حماية مصالح شعبها ورعايته، لا يمكن لها الاستمرارية فى أيامنا هذه. بعض التجارب التى تقوم على مُرمزات دينية أو فقهية أو شخصية أو إثنية تتآكل. ولكى تحافظ على استمراريتها فى بعض الدول، تحولت شيئا فشيئا إلى المزايدة فى الحرص على مصالح الشعب عن طريق تغذية الشوفينية، أو الشعبوية لإعلاء شأن الأمة، وحفظ مصالحها، لكى تستمر فى النمطية المعتمدة. لكن فرص استمرارها فى الوقت الراهن ضئيلة، لكون الاعتبارات الدينية، أو العقائدية لا تكفى وحدها لفرض تولى مقاليد السلطة. فالامتدادات الخارجية للدولة أصبحت ضرورة حتمية لا يمكن تجاوزها، نظرا لترابط الحياة العصرية فى كل أنحاء العالَم.

4 ــ توفير ظروف إنتاج المواطنة: من أبرز شروط نجاح الدولة العصرية، إنتاج مسار واضح لتحقيق المواطَنة بين أبناء الشعب الذى ينتمى للدولة، واحترام حقوق المقيمين على أراضى الدولة من المواطنين الأجانب، وفقا للمحددات التى نصت عليها العهود الدولية التى ترعى حقوق الإنسان المختلفة. إن انتشار التعصب الدينى أو العرقى أو القبلى لا يعنى، بأى حال من الأحوال، أن نموذج التفرقة، أو التمييز بين الشعوب هو القاعدة الثابتة. على العكس من ذلك، فإن تنامى هذه الظواهر، يدل على ضعف الدولة. وإذا استعرضنا ظروف بعض الدول التى تنتشر فيها ظواهر التعصب نرى أن هذه الدول تعانى من أنظمة لم تعتمد قواعد حديثة فى نمطية الحكم، بل غلبت المصالح الشخصية، أو الفئوية، على عملها؛ وبالتالى فإنها فشلت فى إنتاج مواطنة صحيحة يتحلى بها أبناء الشعب كافة، بصرف النظر عن انتمائهم الدينى أو القومى أو العرقى أو السياسى. ويمكن إعطاء مثال على هذه المقاربة فى حالة سوريا والعراق وغيرهما، حيث كان الولاء للشخص أو للحزب أو للطائفة هو القاعدة.

***
يختتم الكاتب بالتأكيد على أنه لا يمكن بناء دولة عصرية من دون الأخذ بالاعتبار التطور الميثولوجى، أو ما يمكن تسميته «السوسيومودرنية» التى تعتمد المعايير العالمية الموحدة للحقوق السياسية والمدنية والشخصية للإنسان، بعيدا من التمايز الحزبى أو الوطنى أو الدينى.

النص الأصلى:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved