حب نغني

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 16 مارس 2019 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

تغني في المطبخ أو في الحمام، فيسمعها الجيران، أسفل وأعلى البناية. وعندما يقابلونها على السلالم يكتفون بالابتسام. تعودوا على صوتها وهي تؤدي أغنيات فيروز وأسمهان، أو ما شابههما من أصوات تأتي مباشرة من السماء إلى القلب، وتدخل دون استئذان وتستقطع مساحتها وتتربع. تحاول أن يكون لها نفس الرنين والإحساس، وتنسى العالم وهي تطبخ على أنغام الموسيقى، تنتشي كل الحواس وتمتزج كل المتع والألوان، كأننا في استراحة من الوقت ذاته.
تحب الغناء من أجل المتعة كما العديد من أفراد عائلتها الذين حباهم الله بأصوات عذبة رائقة وآذان موسيقية تلتقط النغمات بصورة تلقائية دون سابق تدريب. وكانت جداتها المتتاليات يكتفين بالأداء في الجلسات الخاصة للموسيقى والطرب التي كانت تقام في بيوتهن كل ثلاثاء. تجتمع النساء من العائلة والأصدقاء وكل واحدة تتبارى في تقديم ما لديها من مواهب. تغني من تغني، وتعزف من تعزف، وتنظم الشعر من تجيد فن القوالة، إلى ما غير ذلك، فتتحول أركان المنزل إلى مسرح صغير، غير مصرح للرجال بدخوله أو لكل من لا ينتمي بصلة للجمع اللطيف.
***
بمرور الزمن، اختفت هذه العادات. ولم يترك الانشغال الدائم لصاحبتنا بعضا من الوقت تصدح فيه بما يناسبها من أغنيات، فصدأ الصوت قليلا بسبب عدم المران، وانقطع النفس، ولم يعد يطاوعها عندما تحاول الوصول إلى طبقات أعلى. صارت تكتفي بالدندنة مثل جدتها حين تقدمت في العمر وأصبح صوتها يشبه ليلى مراد في فترة ما بعد الاعتزال.
يقولون دائما إنه لا وقت لتعلم الغناء، فهو ليس كالآلات الموسيقية التي لا يمكن إجادة العزف عليها إلا في سن صغيرة، لأن أجسامنا تعرف كيف تغني قبل أن تتكلم. يكفي أن نركز على ما بداخلنا من معاني وأحاسيس، أن نستمع بدقة إلى أصواتنا الداخلية التي نضبتها أحيانا وهي تدندن تلقائيا في الصباح حين نستيقظ من النوم أو ونحن نقود السيارة وسط الزحام. ويقولون أيضا إن الصوت لا يعرف العجز، بل هو الجهاز التنفسي الذي يصيبه الضعف والوهن مع السن. وبسبب أعباء الحياة يشعر حتى الشباب أن شيئا ما يجثم على صدورهم ويجدون صعوبة في التنفس، في هذه الحالة ينصحهم بعض المتخصصين بممارسة الغناء على سبيل الهواية، فالمران ولو مرتين في الأسبوع سيكون كافيا أن يخلصهم من هذا الشعور بالثقل، وإذا كانوا ضمن مجموعة أو كورال فستصحبهم أصوات الآخرين إلى أعلى، مع أن أقدامهم لاتزال مغروسة في أرض الواقع.
ويفسر هؤلاء المتخصصين ما الذي يحدث في الدماغ حين نغني وكيف تتحقق المتعة ويسترخي الجسم، فالذبذبات الصوتية تزيد من إفراز هرمون الإندروفين، أحد أهم المسكنات الطبيعية للألم، كما تزيد مادة الدوبامين التي تؤدي إلى الإحساس بالسعادة، ويقل الكورتيزول الخاص بالإجهاد والضغط العصبي. خلال الغناء، نفتح الحجاب الحاجز وتتسع الرئتين ويتدفق الهواء بشكل أفضل، فنتخلص من التوتر. كما أن التدريب على التحكم في الصوت، لكي لا يحتد ولا يعلو عن الحد المسموح، يمنحنا درجة أعلى من التحكم في الذات عموما.
نعرف أنفسنا بشكل أفضل حين نغني، وهو ما أثبتته الأبحاث الطبية وما يؤكده أصحاب التجارب الذين قرروا أن يمارسوا نوعا من الغناء على سبيل الهواية، عندما يصفون تقوية عضلات القفص الصدري وتغير شكل أجسامهم وأوضاعها وقدرتهم على تنظيم النفس من خلال تدريبات الصوت، هي عملية تدليك كاملة للدماغ. لذا فنحن نشهد إقبالا متزايدا على برامج اكتشاف الأصوات والمواهب، هناك بالطبع ضمن المشتركين من لا يسعى فقط للشهرة والثراء، بل لممارسة متعة الغناء، حتى في ظل ازدياد آراء التحريم.
***
تحزن صاحبتنا فتغني قليلا، يختنق صوتها من فرط التأثر والعواطف الجياشة. تردد مع مايك ماسي أغنيته "حب نغني وصوتي هارب مني، صوتي هو أنا، وأنا ضايعة مني". يهرب الصوت لكنها تذهب لملاقاته. تغني في فضاء الصحاري فيرتد الصدى، كما كان يحدث حين تغني في مطبخها بالقرب من شباك المنور أو هذا الفراغ الذي يفصل بين الشقق. يرن الصوت أكثر ويرجع البشر إلى حالة الإنسان البدائي الذي اخترع الغناء، قبل الآلات الموسيقية ليعبر عن نفسه ويخرج طاقاته الكامنة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved