الأمل منعقد على الصين

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 16 مارس 2022 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

غريب أمر بعض أعضاء الكونجرس الأمريكى، من الجمهوريين بخاصة، الذين يطالبون باتخاذ مواقف أمريكية فى الحرب الأوكرانية أشد تطرفا. أحدهم وهو من زعماء الحزب الجمهورى يطالب برأس الرئيس بوتين وآخرون بإرسال طائرات أمريكية لأوكرانيا وفرض حظر جوى وتصعيد الحصار الجبار حول روسيا. هؤلاء يعلمون أن أوكرانيا، فى ذهنية الهيمنة الغربية، ليست أكثر من طعم لاستدراج روسيا إلى هاوية السقوط. هم يعلمون وآخرون خارج أمريكا أيضا يعلمون ويدركون خطورة هذا الجانب الهدام فى استراتيجيات الهيمنة.
سمعت محللا، خلال حوار عبر الأثير، يذكرنا بأبجديات تاريخ صراعات الأقطاب والدول والحضارات، وهى نفسها من أبجديات النظرية المعاصرة فى علوم العلاقات الدولية، وهى نفسها ما نشأنا عليه فى بيوتنا القديمة وتراث حواديت جداتنا. لقنتنا الجدات درسا قيما من دروس عديدة قيمة، إن اشتبكنا فى صراع مع حيوان فى الغابة أو فى الحى فواجبنا أن نحاول ألا نصيبه إصابة بالغة. لن يتركنا سالمين آمنين. هذا الحيوان أو الخصم المصاب يتحول إلى وحش كاسر لا يرى أمامه سوى الدم والانتقام ولن يفرق بين عدو وحليف. يعتقد هذا المحلل، وأنا أتفق معه، وإن مع بعض التحفظ، أن الرئيس دونالد ترامب جرب أن يجر الصين إلى اشتباك. تنبهت ولم تشجعه. كان هدفه تطوير الاشتباك إلى صراع حاد يعتمد فى البداية على آليات التجارة والاقتصاد والحصار بالأحلاف، ثم بالجيوش وسباقات التسلح والفضاء. فشل ترامب، والمجموعة الأشد عدوانية فى النخبة الحاكمة، فى تحقيق الهدف خلال عهده. كان السبب فى الفشل يكمن غالبا فى المستوى المنخفض جدا لعلاقات الولايات المتحدة بمعظم حلفائها فى ذلك الحين، وفى الوقت نفسه كان للرئيس بوتين موقف لا يشجع أمريكا على الاستمرار فى مساعيها لإثارة ثم تصعيد اشتباكها مع الصين.
كان واضحا أن هذه المجموعة الأشد عدوانية فى منظومة صنع السياسة الخارجية فى الولايات المتحدة، وفى ضمنها عمالقة شركات صنع السلاح وجماعات ضغط لها مصالح مستفيدة مباشرة أو عن طريق تنفيذ سياسات تثير أو تزيد التوتر فى العلاقات الدولية فى أقاليم معينة أو فى العالم عموما، أقول كان واضحا أنها بعد الفشل الذى منيت به جهودها لإثارة توتر حاد فى العلاقات مع الصين عادت فى عهد الرئيس بايدين تركز خصوماتها على روسيا. هذه المرة كانت موسكو، على ما أتصور، واعية للدرس. الهدف النهائى ما يزال هو نفسه، وهو وقف أو تعقيد فرص صعود طرف جديد، وهو الصين، نحو مكان فى القمة الدولية ومنع طرف مخضرم، وهو روسيا، من استعادة مكان على القمة فقده بانتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتى ثم انفراطه. ما تغير فعليا لا يخرج عن تعديل بسيط فى الأسبقية، البدء بالصين أم بروسيا. الأمر المؤكد ألا يكون البدء بالاثنتين معا فى ظروف أمريكا الراهنة وعلاقات الغرب بعضه بالبعض الآخر.
• • •
لم يقرر الرئيس بوتين فجأة إعلان الرغبة فى استعادة نفوذ روسيا فى العالم وبالأخص فى مواقع ريادتها السابقة. انتبهنا إلى قفزاته عبر سنوات حكمه من فوق تمددات حلف الأطلسى فى وسط وشرق أوروبا نحو الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. استعاد لبلاده ممارسة التمدد حتى وصل النفوذ الروسى إلى أفريقيا الاستوائية. لم تكن أحداث أوكرانيا خلال السنوات الأخيرة غائبة عنه. أوكرانيا، بالنسبة لروسيا أيا كان لون الحكم فيها وحجم مسئولياتها الإقليمية والدولية، ليست مجرد دولة أوروبية أخرى أو دولة من دول الجوار، إنما جزء حقيقى من كيانها الثقافى والإمبراطورى والدينى والأمنى. كانت حاضرة دائما فى ذهن النخبة السياسية الروسية، وبخاصة الجماعة الاستخباراتية، فكرة أن أمريكا حين تنوى قصقصة ريش روسيا البوتينية فسوف تبدأ من أوكرانيا وليس من جورجيا وبلاد الشيشان.
هناك على الناحية الأخرى ظهر جليا أن الصين حاولت ونجحت فى تفادى الوقوع فى أكثر من شرك أمريكى فى عهد ترامب وكذلك، ولكن بتركيز أقل جدا، فى عهد بايدين. فلبايدين باع فى صراع أمريكا مع روسيا لا يتوافر بالقدر نفسه فى صراعها مع الصين. ومع ذلك فقد ساد توقع فى الأكاديميات الصينية بأن أمريكا لن تنتظر حتى تُعمر ما تَخرَّب وتهدم وتدهور فى البنية التحتية الأمريكية لتبدأ بعدها مواجهاتها الساخنة أو الباردة مع خصميها الروسى والصينى. توقعوا أيضا، فيما يبدو، أن واشنطن سوف تعتبر روسيا تهديدا ثانويا بالمقارنة بالتهديد الصينى ولكنها لم تكن لتبدأ بروسيا قبل أن يتكتل الحلف الأطلسى ويتوحد خلف أمريكا.
أعرف، بقدر من الدقة، أنه رغم عديد التغييرات التى دخلت على السياسة الخارجية الصينية لا يزال الحزب الشيوعى الصينى حريصا على عدم الانجرار فى ركاب أزمات دولية عويصة سواء مع الجيران أو مع غير الآسيويين. المؤكد أيضا، من وجهة نظرى، أن حكمة الرئيس الأسبق دينج تشاو بنج فى هذا الخصوص لا تزال حاكمة وملزمة للحزب فى عهد شى، رئيسه الحالى.
ليس محل شك فى دوائر صنع السياسة فى الصين أن الهدف الأعلى لواشنطن، فى استراتيجيتها المعلنة وحسب قواعد سياساتها غير المعلنة وبأغلبية الآراء فى الحزب، لا يخرج عن تنفيذ خطة «وقف صعود الصين». بكلمات أخرى، أن تعمل واشنطون بكل الوسائل بما فيها القوة المسلحة لاستعادة الأحادية القطبية المطلقة التى حلت فى أعقاب الانفراط السوفييتى، من «براثن طموحات الصين ونفوذها المتوسع فى كل القارات بما فيها أمريكا الجنوبية».
• • •
هكذا تصبح الأزمة الأوكرانية درسا جاء متأخرا وبالغ القسوة لروسيا ودرسا مبكرا وغير مباشر للصين. لذلك، ومن وجهة نظرى على الأقل، فإن بكين لم تخطئ عندما لم تصطف وراء موسكو فى هذه الحرب حليفا كاملا ومتكاملا، فالشرك المنصوب فى أوكرانيا كان يمكن أن يتسع للقطبين الروسى والصينى معا لو تكاملت عناصر القوة لدى أمريكا. كذلك لم تخطئ فى خطواتها التالية، ومنها استثمار ردود الفعل العالمية لتقيس بالدقة الواجبة ظروف خطواتها التالية. فللصين، كما يعرف الخبراء، هواية استحلاب أقوال وحكم وتجارب شخصيات فى تاريخها المتواصل الحلقات. لديهم مثلا فى سجلات سياسات الصين الخارجية فى أوائل مرحلة صعودها تجربة المشاركة فى إطلاق حركة الحياد الإيجابى ثم فى قيادتها. اليوم وفى ظل الأزمة الأوكرانية الخانقة، واللئيمة كما يصفونها، تعود إلى صدارة الموقف الصينى شعارات تنسب دائما إلى شو اين لاى رئيس وزراء الثورة الصينية فى منتصف عقدها الأول. من هذه الشعارات التعايش السلمى وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى واحترام مبدأ السيادة الإقليمية. المهم فى ظروف أزمة أوكرانيا أن نذكر أن دول العالم النامى عادت تطرح هذه المبادئ تبرر بها غضب حكوماتها وشعوبها من صراعات الهيمنة التى يمارسها القطبين الأمريكى والروسى. صراعات تنشب بين الكبيرين وضحاياها من الصغار. يكفى الصين أن تردد الدول النامية هذه الشعارات الغاضبة أو المبادئ الموروثة لتدرك أن دورا لصالح السلام ينتظرها لتقوم به. العالم النامى بأسره كشف بمواقفه من أزمة أوكرانيا تنديده بالطرفين، الطرف الغربى بقيادة أمريكا التى ماجت بجيوشها تغزو وتحتل دولا ذات سيادة، لم تستأذن من مجلس الأمن وعموما لم تحترم قواعد سلوك هى نفسها كانت وضعتها وتطالب الآخرين باحترامها، والطرف الروسى الذى تدخل بجيوش أيضا جرارة ليغزو ويحتل أوكرانيا الشقيقة، الدولة ذات السيادة ويخرب اقتصاداتها ويشرد ملايين الأفراد من شعبها.
نعم، الصين كقطب متمرد على طريق الصعود، مدعوة لتحمل مسئولية قيادة حركة تشنها دول مستقلة وغير منحازة بهدف وقف سلوكيات الهيمنة والاستعمار. بوجود الصين طرف متمرد نكتشف الآن أن السلم العالمى لن يتحقق ويستقر ما لم يتخل القطبان الروسى والأمريكى عن عنصرية صريحة أو مستترة فى الإصرار على أن تظل القمة الدولية حكرا للجنس الأبيض حصرا. أوكرانيا كانت ولا تزال أزمة كاشفة. أولا: كشفت لشعوب العالم النامى زيف أوروبا عن حقوق الإنسان عندما ميزت معظم دولها بين النازح الأبيض أزرق العينين والنازح الأسمر والأصفر. ثانيا: كشفت عن حقيقة معتم عليها وهى أن الصين، وشعبها ضيق العينين أصفر اللون، يستحيل التصور أن تقود عالما لا تزال تهيمن عليه قوى لا تزال تمارس العنصرية كما فعلت فى أول أزمة كبرى تقع فى أهم معاقلها، فى أوروبا. ثالثا: ترددت مقارنات صارخة بين تعامل أمريكا والغرب كما روسيا وجوارها الأوروبى فى أزمة أوكرانيا وبين تعاملها فى الأزمة المستدامة بين الدولة الصهيونية وفلسطين.
• • •
كثيرة هى المسارات التى يمكن أن تسلكها أزمة أوكرانيا، أما أهمها وأخطرها فهو المصير الذى ينتظر العالم لو أن أمريكا ودول فى أوروبا أصرت أن تجر روسيا إلى مهالك أو إلى مسالك أشد قسوة. هنا ينعقد الأمل على الصين معتمدة على دعم العالم النامى، أن تتدخل فى الوقت المناسب فتنقذ الغرب من نفسه وتمنع ذبح أوكرانيا وتضع روسيا على طريق جديد لم تسلكه من قبل وتستعيد لدول العالم النامى الأمل فى مستقبل لا هيمنة فيه أو تسلط.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved