الفتاة المصرية تتحدى الشرطة

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الجمعة 16 أبريل 2010 - 9:20 ص بتوقيت القاهرة

 عندما كنت طالبا فى كلية الحقوق، منذ نحو ستين عاما، كانت الغالبية الساحقة من الطلاب من الذكور، إذ بين كل نحو ألف من الذكور، كان عدد الطالبات لا يزيد على عشر.

كان من الطبيعى أن يسيطر على هذه الحفنة الصغيرة من الطالبات، شعور قوى بالخجل، فكنا نراهن سائرات وقد التصقت كل منهن بالأخريات، ويختفين تماما بمجرد انتهاء المحاضرة، لا يكلمن أحدا دون أن تحمر وجوههن، ولايجرؤ أحد منا أن يكلم واحدة منهن، إلا إذا كان يتمتع بجرأة وشجاعة فائقة، يحسده الباقون عليها.

أذكر أننا فى مارس 1954، أى منذ 56 عاما، قمنا بالاعتصام فى القاعة الكبرى بجامعة القاهرة، احتجاجا على تنحية محمد نجيب من رئاسة الجمهورية بسبب خلافه مع بقية الضباط، إذ كان يريد الديمقراطية ومعظم الباقين يريدون استمرار حكم الضباط، قررنا قضاء الليلة فى هذه القاعة الكبيرة، واستمرار الاعتصام حتى يعود محمد نجيب إلى الحكم، أرسل إلينا مجلس قيادة الثورة من يحاول إقناعنا بفض الاعتصام فرفضنا، وكانت النتيجة الباهرة لهذا الاعتصام، وللغضب الشعبى الساحق من مختلف الفئات المؤيدة لمحمد نجيب، أن عاد محمد نجيب إلى الحكم.

القصة معروفة ومشهورة، ولكن الذى أريد أن أذكره الآن أنه من بين فئات المعتصمين فى جامعة القاهرة لم تكن هناك طالبة واحدة، بل ولم يخطر ببالنا قط أنه من الممكن أن تنضم فتاة واحدة إلى المعتصمين،

كان هذا يعتبر من الطالبات أنفسهن ضربا من الجنون، لا يمكن أن يتصورنه ولا أن تتصوره عائلاتهن، كان العمل الوطنى مهمة الرجال، بينما يكتفى النساء بالمشاهدة والمتابعة عن بعد.
كانت الطالبات، بمجرد أن تبدو أى بادرة لاحتمال قيام مظاهرة يسرعن بالعودة إلى بيوتهن تجنبا لأى عمل من أعمال العنف قد يصدر عن الطلاب أو الشرطة.

تذكرت كل هذا وأنا اتابع أخبار اشتراك الفتيات المصريات فى حركة 6 أبريل فى الأسبوع الماضى وانضمامهن إلى مظاهرات تطالب بالحرية وتغيير الدستور وإلغاء قانون الطوارئ، رأيت صور الفتيات فى الصحف وهن يتصدين لرجال الأمن، ويهجمن عليهم وهم يحتمون بالدروع، وقد اعترى وجوه الفتيات تعبيرات الغضب الشديد، ثم قرأت عما فعله رجال الشرطة بهن وبزملائهم من الشباب من ضرب بالعصى الغليظة وسحل وشتم بأقزع الألفاظ، ثم حملهم حملا إلى داخل سيارات الشرطة.

نعم المنظر مذهل بقسوته المتناهية وغير المبررة، ولكن كم شعرت بالفخر بما أحرزته المرأة المصرية، خلال الستين عاما الماضية، من تحرر نفسى وعقلى. لم تعد المرأة المصرية، أو على الأقل شرائح واسعة جدا من النساء المصريات، سجينة الاعتقاد بأنها مجرد جسد.

اكتشفت المرأة المصرية أنها فوق ذلك، عقل وقلب، تحمل نفس المشاعر نحو وطنها التى يحملها الرجل، وتفهم بالضبط ما آلت إليه الأحوال فى مصر، مثلما يفهمها أفضل زملائها من الذكور، وتقع عليها نفس المسئولية التى تقع عليهم.

المرأة المصرية اليوم فى كل مكان، وتقوم بكل الأعمال وتتولى كل الوظائف، أصبحت النسبة التى تحتلها من مقاعد المدرجات بالجامعات، تقرب من النصف وقد تزيد عنه واحتلت مناصب قيادية فى الحكومة والشركات وشاركت بجدارة فى حركة التأليف والكتابة الأدبية، وتألقت فى العمل الصحفى والإخراج السينمائى، ولمعت كمخرجة ومذيعة فى التليفزيون، بل وجلست كقاضية فى القضاء العادى، وكادت تكسب معركة الجلوس قاضية فى مجلس الدولة، وها هى المرأة المصرية الآن تتصدى، رافعة الرأس موفورة الكرامة، لرجال الشرطة الذين ينظرون إليها بفخر واحترام عندما لا يكون الضابط المسئول واقفا لمراقبتهم.

نعم، إن ما صدر عن الضباط مشين ومحزن حقا، ولكن فليبتهج المصريون رجالا ونساء، بهذه المساهمة الرائعة من المرأة المصرية فى حياتنا السياسية الحديثة والتى تبشر ببداية خير عميم.


هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved