قضايا شائكة فى مكافحة الإرهاب

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 16 أبريل 2017 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

لم يكن المجتمع المصرى هو المجتمع الوحيد الذى واجه تحدى جماعات إرهابية، عرفته من قبله مجتمعات أخرى، وكما انتصرت بعض هذه المجتمعات فى هذه المواجهة، فليس من المستحيل أن يعبر المجتمع المصرى أزمة هذه الجماعات بسلام. كانت تلك تجربة ألمانيا واليابان وإيطاليا فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى مع منظمات مثل بادر ــ ماينهوف، والكتائب الحمراء، وجناح الجيش الأحمر، وكانت تلك تجربة بيرو مع تنظيم الدورية المنيرة، والجزائر مع كل من جيش الإنقاذ الإسلامى والجماعة الإسلامية المسلحة. هزمت كل هذه الجماعات الإرهابية وعرفت مجتمعاتها السلام. ومن المأمول أن يكون ذلك هو حال مصر كذلك، فهناك من الأسباب الموضوعية ما يرجح ذلك، ولكن بشروط أساسية، وهى أن يعرف المجتمع المصرى، وأن تعرف قيادات الدولة فيه، السياق التاريخى الذى يجرى فيه هذا التحدى، وشروط التعامل معه.
الأسباب الموضوعية للتفاؤل عديدة، أولها أن هذه الجماعات التى تحمل السلاح هى بطبيعتها محدودة العدد، وسواء أدخلنا فى الحساب ما ينشط منها فى سيناء أو فى الدلتا والصعيد، فأعضاؤها لا يتجاوزون على أقصى تقدير بضعة آلاف، لأن هذه هى بالضرورة طبيعة الجماعات التى تنتهج الإرهاب سبيلا لعملها، والمقصود بالإرهاب هنا هو استخدام السلاح لتحقيق أهداف سياسية محدودة، لا تشمل هزيمة الجيش النظامى وتولى السلطة، مما قد يكون هدفا للجماعات التى تخوض حروب العصابات، وتستهدف من ورائها إلحاق الهزيمة بالقوات النظامية وخلع الحكومة وتولى السلطة، وهو ما عرفته ثورات الصين وفيتنام والجزائر. أما الجماعات الإرهابية، فهى مضطرة للارتداء بالسرية، والاحتماء بتنظيم صارم، وتجنيد أعداد صغيرة ممن يمكن تدريبهم على استخدام السلاح بعد أن يتم غسل عقولهم ليتشربوا رؤية هذه الجماعات لمجتمعها ومن تصنفهم كأعداء ينبغى من وجهة نظرها التخلص منهم. وإذا كان هذا التحليل صحيحا، فليس من المستحيل على المجتمع والدولة فى مصر هزيمتها، لأن إمكانيات الدولة بشريا وماديا وفنيا أضخم بكثير إذا ما استخدمت بحكمة.
ثانى هذه الأسباب أن المجتمع المصرى ورغم كل ما يقال عن انتشار الاتجاهات المتعصبة فيه هو عصى على الانصياع وراء المواقف الطائفية لهذه الجماعات. لم تتحول اعتداءاتها على المواطنين المسيحيين رغم فتن محدودة هنا وهناك إلى حرب أهلية بين المسلمين والمسيحيين. وتضامن المسلمون مع المسيحيين بعد أحداث القاهرة وطنطا والإسكندرية. كانت الضحايا فى طنطا والإسكندرية من المسلمين والمسيحيين، وبعضهم من رجال وسيدات الأمن الذين كانوا مكلفين بحماية دور العبادة المسيحية. ومع أن الغضب دفع مسيحيين إلى التظاهر فى أعقاب مجزرة الإسكندرية خصوصا، إلا أن شعارات المتظاهرين كانت تعبر عن الاحتجاج على ما اعتبروه تقصيرا من الأمن فى حمايتهم، ولم تكن تحمل عداء للمسلمين أشقائهم فى الوطن.
أخيرا، وهذا هو المدهش حقا أنه رغم الانتقاد للخطاب الدينى السائد والدعوة إلى ضرورة تجديده، إلا أن الذين يتلقون جرعات مكثفة من هذا الخطاب الدينى السائد، وهم بالدرجة الأولى طلبة المعاهد الدينية الأزهرية على جميع مستوياتها من مدارس وكليات جامعية، هم شبه غائبين عن أعضاء وقيادات الجماعات الإرهابية. البيانات التى تتيحها وزارة الداخلية تكشف أن من جندتهم هذه الجماعات هم فى الغالب من خريجى المدارس الفنية المتوسطة أو أن قلة منهم من خريجى الجامعات المدنية. الدعوة لتجديد الخطاب الدينى مشروعة، ولكن لابد من التساؤل عن علاقة الخطاب الدينى السائد بالإرهاب. والأرجح أن هناك خطابا دينيا آخر خاصا بالجماعات الإرهابية، وهو الذى قد يكون المرحلة الأخيرة فى مسيرة تحولهم إلى إرهابيين، وهو الخطاب الذى يتعين الكشف عنه ومقارعته بالحجة، حتى لا يتحول إلى ذخيرة تبقى على اشتعال نار الإرهاب.

تحديات الأجل القصير.. ومهام الأجلين المتوسط والبعيد
لقد طرح الذين تصدوا لمناقشة تقوية مناعة المجتمع المصرى ضد الأعمال الإرهابية العديد من المقترحات مثل النهوض بالتعليم وتجديد الخطاب الدينى وهى مهام لا يمكن إنجازها فى فترة قصيرة من الزمن، على حين أن جرائم الإرهاب متلاحقة، ولا يكاد يمر يوم دون أن نقرأ عنها فى سيناء أو فى أماكن أخرى من الوطن، فهل يتعين علينا الانتظار حتى يؤتى الإصلاح التعليمى والدينى بل والاقتصادى والاجتماعى ثمراته، أم أن هناك قضايا ملحة يجب التصدى لها بفعالية فى الوقت الذى يمكن أن تنصرف فيه الجهود إلى هذا الإصلاح المأمول إن جرت عجلته.
المهمة العاجلة الأولى هى وقف التجنيد المحتمل لمتطوعين جدد فى صفوف هذه الجماعات، وتكشف البيانات التى تتوافر عمن انخرطوا فى تنظيمات الجماعات الإرهابية هى أنهم ممن يتصورون أن الإسلام فى مصر فى خطر، وأن هذا الخطر تزايد خصوصا بعد الموجة الثانية لثورة يناير فى يونيو 2014 والتى يعتبرونها انقلابا عسكريا أزاح أنصار الإسلام من سلطة الحكم فى مصر. وقد ذكرت وزارة الداخلية أنها ألقت القبض على أعضاء خلايا إرهابية فى الإسكندرية والبحيرة وقنا ينتمون إلى ما يسمونه بالحراك الثورى ولواء الثورة وتصفهم الوزارة بأنهم من أعضاء أو أنصار الإخوان المسلمين. وكشفت تقارير سابقة أن شباب الإخوان المسلمين انتقدوا قيادتهم لأن أسلوبها السلمى هو الذى أطاح بالإخوان المسلمين من السلطة، وهم يدعون إلى الكفاح المسلح فى مواجهة نظام الحكم الحالى فى مصر. كيف يمكن وقف نجاح هذه الجماعات فى تجنيد أعداد جديدة من الشباب لصفوفها؟ وهل هناك سبيل آخر للتعامل مع الإخوان المسلمين يقلل من فرص هذا النجاح.
ذكرت تقارير عن محمود شفيق محمد الذى فجر نفسه فى الكنيسة البطرسية بالعباسية أنه كان قد قضى شهورا فى السجن لأنه تصادف مروره بالقرب من مظاهرة للإخوان المسلمين، وأطلق سراحه بعد شهور لأن «تهمة» انتمائه للإخوان المسلمين لم تثبت عليه. وكشفت تقارير العفو عن المسجونين السياسيين أن بعضهم سجن لاعتقاد أجهزة الأمن أنهم أعضاء فى تنظيم الإخوان المسلمين، ولكن البعض الآخر قبض عليه لأنهم بحسب اعتقاد اجهزة الأمن «متعاطفون» مع الإخوان المسلمين. ولم يثبت لا فى حق الأولين ولا الآخرين أنهم ارتكبوا أعمال عنف من أى نوع. هم كلهم فى الأغلب ضحايا ما يسمى بالحبس الاحتياطى. ولنتساءل هنا: ما هو موقف هؤلاء الشباب من الجماعات الإرهابية، وما هو موقف أصدقائهم وأقاربهم مما جرى لهم؟. أليس كل هؤلاء متطوعين محتملين أو مناصرين أو متعاطفين مع الجماعات الإرهابية؟ بالطبع كل من ارتكب جريمة باستخدام السلاح يجب أن يلقى جزاءه بموجب القانون. ولكن امتداد الحبس الاحتياطى أو البقاء فى السجن بدون اتهام أو محاكمة يزيد من أعداد المتعاطفين مع الجماعات الإرهابية.
لقد اقترح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة عفوا عمن يتخلى عن السلاح فى أعقاب الحرب الأهلية فى الجزائر فى عقد التسعينيات فى القرن الماضى، وقد شهدنا فى الأسابيع الماضية تطورات مماثلة فى كولومبيا وإسبانيا مع كل من منظمتى فارك وإيتا. طبعا كثيرون يضيقون بأى حديث عن نمط جديد من التعامل مع الإخوان المسلمين وأنصارهم. ولا يجب أن ننسى أنهم حصدوا قرابة اثنى عشر مليون صوت فى انتخابات 2011، و2012. إذا كنا لا نريد تغيير النمط السائد فى التعامل معهم، فيجب أن نكون مستعدين لمواجهة تحدى تضخم أعداد المنضوين تحت لواء الجماعات الإرهابية.
المهمة العاجلة الثانية هى ضرورة تسلح أجهزة الأمن بسلاح المعلومات فى حربها ضد الجماعات الإرهابية، فلا فعالية لمواجهة ناجحة لهذه الجماعات ما لم تستند إلى أفضل معرفة عن خلفيات أعضائها وأساليب تجنيدهم وكيفية تدريبهم وأماكن وجودهم وأنماط اعتداءاتهم ونوعية سلاحهم ومصادر تمويلهم، وبعيدا عن الاتهامات الجاهزة بأن وراءهم قيادات الإخوان الهاربة والحكومتان القطرية والتركية ومنظمة حماس إلا إذا كانت هناك أدلة ثابتة على ذلك، وبالتمييز بين ما يسمى بالجماعات التكفيرية مثل داعش وجماعات أخرى مثل الإخوان المسلمين. كما أن المعلومات ليست مقصودة لذاتها، وإنما يجب الربط فيما بينها للتنبؤ بالخطوات القادمة لهذه الجماعات ومواقعها. أليس من الغريب أن تأتى الهجمات على الكنيستين فى طنطا والإسكندرية بعد أيام من عمل إرهابى فى طنطا ضد قوات الشرطة ومن اكتشاف خلايا إرهابية فى ثلاث محافظات منها الإسكندرية دون أن يستدعى ذلك اهتماما خاصا من أجهزة الأمن بهذه المحافظات؟ وهل يكون أسلوب التصفية الجسدية هو الأفضل فى مكافحة هذه الجماعات بدلا من بذل أقصى الجهد للحفاظ على حياة من يواجه من أعضائها الشرطة أو المواطنين ليكون مصدرا ثريا للمعلومات عن الجماعة التى ينتمى إليها؟.
***
أما عن مهام الأجلين المتوسط والطويل فلا يكفى ما تبقى من هذا المقال لتناولها، ولكن يكفى القول إن تجديد الخطاب الدينى لا يأتى فى المقام الأول من داخل أى مؤسسة دينية، وإنما هو نتيجة إطلاق حرية الفكر والتعبير فى المجتمع، ومقارعة كل حجة بما يناقضها أو يوضح أبعادها، وأن النهوض بالتعليم فى مصر يعنى أساسا أن يملك المتخرجون منه القدرة على التفكير النقدى المستقل، ولن ينجح النظام التعليمى فى ذلك إلا إذا كان النظام السياسى وعلى أعلى مستوياته مرحبا بالفكر المستقل وساعيا لإرساء شرعيته على أساس إقناع المواطنين بالحجة على سلامة ما ينتهجه من سياسات وما يتخذه من مواقف، واستعداده لتغييرها وفقا لما يخرج من الحوار العام فى المجتمع. هذه تحديات كبرى على مدى زمنى أطول، ولكن الأخذ بها لا يجب أن ينتظر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved