المعلومات.. العملة الجديدة للتجارة

ماجدة شاهين
ماجدة شاهين

آخر تحديث: الجمعة 17 أبريل 2020 - 11:42 ص بتوقيت القاهرة

طالما جادل الاقتصاديون حول تعريف مصطلحات القرن الـ20، سواء بالنسبة للعولمة أو الاعتماد المتبادل أو الاندماج أو الاقتصاد المزدوج. وأنهم اليوم ليسوا أحسن حالا، فهم يعانون من ذات التخبط أمام إيجاد تعريفات مناسبة للرقمنة والاقتصاد الرقمى والتجارة الإلكترونية وغيرها من المصطلحات ذات الصلة. فقد أصبحت المعلومات فى القرن الـ21 حجر الأساس للاندماج فى سلاسل الإنتاج والتوريد والاقتصاد الرقمى والتجارة الإلكترونية (التجارة فى المنتجات والخدمات المقدمة عبر الإنترنت). وعلى الرغم من اكتساب العديد من الدول الخبرة فى الرقمنة الاقتصادية والتحول إلى الاقتصاديات الرقمية، تظل الولايات المتحدة هى الدولة الرائدة والمسيطرة والقوة الدافعة لجهود تطوير نظام قواعدى لتحرير تدفق المعلومات والتجارة عبر الحدود.
وفى السنوات الأخيرة، بدأت كل من الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبى فى البحث عن إطار توافقى لتذليل الحواجز أمام التجارة الإلكترونية وتنظيم انسياب المعلومات بسلاسة عبر الحدود. غير أنه تبين أن ذلك لا يشكل أولوية بالنسبة للعديد من الدول، التى لم تستوعب بعد تطور التكنولوجيا المتسارعة بوتيرة غير مسبوقة. ومن المؤسف أن الدول تعاملت بنفس المنطق الذى كثيرا ما انتهجته فى قضايا الشمال والجنوب وإثارة حرب شعواء بين الدول النامية والمتقدمة، حيث تخشى الأولى من فقدان حريتها واستقلاليتها، بينما لا تتوانى الدول المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة بنسج البيت العنكبوتى للسيطرة والهيمنة على تدفق المعلومات دوليا.
***
وآثرت الدول التعامل مع هذا التطور من خلال نظرة وسياسات وطنية ضيقة وباستقلالية عن بعضها البعض تحقيقا لأولويات كل دولة على حدة داخل حدودها، واهتم المسئولون بإقامة شركات الإنترنت المحلية خوفا من، وبعيدة عن، سيطرة الشركات الأمريكية. وإن كان ذلك مشروعا ومبررا، إلاّ أنه جاء متأخرا، حيث أثبتت الشركات الأمريكية تفوقا لا مثيل له عالميا، الأمر الذى يجعلنا فى أمس الحاجة إلى قواعد دولية لتقنين التعامل مع أنشطة الإنترنت المختلفة بحكمة وتوازن. فالولايات المتحدة موطن لـ11 من بين أكبر 15 شركة متصلة بالإنترنت، فى حين أن الصين موطن لأربعة. وليس لدولة أخرى فى العالم أى شركة فى المراكز الـ15 الأولى. فالولايات المتحدة وإلى حد أقل الصين، يعدان عملاقى الإنترنت، لديهما الهيمنة الكاملة على السوق والقدرة على القضاء على ظهور أى منافسين محتملين.
وأصبح التفاوض على كيفية السماح بنقل المعلومات عبر الحدود عن طريق الوسائل الإلكترونية أمرا حتميا.. فإيجاد التوازن الدقيق ما بين دعم الإنترنت المفتوح دون إعاقة أو حواجز تجارية وإجازة الحكومات لفرض استثناءات أو قيود على نقل المعلومات عبر الحدود لتحقيق أهداف السياسة العامة والأمن القومى، أصبح أمرا حيويا شريطة ألاّ تكون هذه الإجراءات تمييزية أو بمثابة قيود مقنعة تعمل على تشويه التجارة. وإن نؤيد ما تسلكه كل دولة من وضع القوانين لتهذيب التعامل بالإنترنت ومنع السلوك غير القانونى مثل نشر خطاب الكراهية وانتشار بيع المخدرات واستغلال الأطفال فى المواد الإباحية والاحتيال وسرقة الهوية واختراق الأمن السيبرانى وغسيل الأموال، فإن هذا لا يتحقق من خلال تقييد تدفق البيانات وعرقلة الابتكار والتقدم التكنولوجى، وإنما من خلال تعاون دولى لوضع قواعد تنظيمية يتفق عليها وإزالة القلق المتزايد من هيمنة الولايات المتحدة على اقتصاد الإنترنت وسيطرتها على شبكات الإنترنت.
***
والتساؤلات الأكثر إلحاحا هى عن المكان الأنسب لصياغة مثل هذه القواعد وكيفية موازنة المصالح المتشابكة للدول. أمّا بالنسبة للمكان، فإن منظمة التجارة العالمية والتى تضم 164 دولة فهى تمثل مكانا مناسبا. وعن موازنة المصالح، فمن الأهمية الموازنة بين رغبة وحق الحكومات فى حماية شعوبها من مثالب الإنترنت وتوجيه استخداماتها إلى ما هو فى صالح الشعوب، من ناحية، وبين الحماسة الأمريكية للتدفق الحر للمعلومات والتجارة الرقمية دون أى قيود أو حواجز تعوقهما. وضمانا لتحقيق التوازن بين هذين النقيضين يتعين على الدول جميعها كبيرها وصغيرها المشاركة دون تردد فى صياغة القواعد للرقابة الدولية على الإنترنت وتنظيم تشغيلها بعيدا عن السيطرة المنفردة من أجل تحقيق مصالح الجميع.
كما يمكن لهذه القواعد أن تشمل استثناءات مشروعة – إن لزم الأمر ــ لحماية الصحة العامة والآداب العامة والخصوصية والوطنية والأمن والملكية الفكرية، طالما كانت هذه القيود ضرورية ومتسقة ولا تقم بالتمييز بين الدول بعضها البعض. ومثل هذه القيود متواجدة بالفعل فى اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، لا سيما اتفاقية تكنولوجيا المعلومات والتجارة فى الخدمات، وكلتاهما تتناولان تدفق المعلومات عبر الحدود، بما فى ذلك الخدمات المصرفية والاتصالات والكمبيوتر والسياحة والخدمات المهنية. غير أن هذه الاتفاقيات فى نظر الكثيرين سبقت الانتشار السريع للإنترنت، ومن ثم تنادى الدول بإعادة دراسة ما تضمنته من قواعد ومواءمتها مع التقدم الهائل الذى طرأ على استخدامات الإنترنت وتحديثها.
***
وبينما يؤمن صانعو السياسة أن اعتماد السياسات التى تقصر تخزين البيانات الهامة أو نقلها أو معالجتها داخل الدولة من شأنه حماية بياناتهم ومواطنيهم من مثالب الإنترنت، تدفع الإدارة الأمريكية بالحد من محاولات توطين البيانات وبناء المنصات الوطنية، وذلك دفاعا عن موردى الخدمات والمستثمرين وشركاتها العملاقة وترجيحا للأعمال التجارية دون المصلحة العامة للشعوب. وما زالت الحرب مستمرة بين ما يملكون وما لا يملكون، وبين الشمال والجنوب.
وعلى صعيد آخر، تعيش الولايات المتحدة هى الأخرى تناقضا حادا ما بين الحرية المطلقة لتدفق المعلومات عبر الإنترنت واستخدام الأخيرة كمعبر لسرقة الأسرار التجارية من قبل أعدائها وحلفائها على حد سواء. وترى الإدارة الأمريكية أنها تتعرض لأكبر سرقة على الإطلاق للتكنولوجيا الأمريكية وأكبر تحويل لثرواتها فى التاريخ، بما فى ذلك الطائرات بدون طيار، والروبوتات، وتكنولوجيا الاتصالات. وربما يكون صانعو السياسة الأمريكية أكثر اهتمامًا بحماية حقوق الملكية الفكرية عبر الإنترنت كحاجز تجارى أكثر من الحفاظ على الحرية المطلقة لتدفق المعلومات، سيما أن كثيرا من الشركات الأمريكية الخاصة لا تمتلك دفاعات إلكترونية كافية. كما أنه لا يمكن تبرئة الولايات المتحدة من السرقة. فقد قدم ويكيليكس دليلا على أن الولايات المتحدة تتجسس على الشركات اليابانية مما حدا بالرئيس أوباما فى 2015 للاعتذار لرئيس الوزراء اليابانى. وقام مكتب المستشارة أنجيلا ميركل بفضح الولايات المتحدة فى العام نفسه لتجسسها على الشركات الألمانية والأوربية. والتعامل مع هذه الانتهاكات يستوجب أيضا التعاون والتوافق الدولى وبناء الثقة. وأصبح إيجاد أرضية مشتركة لوضع القواعد واللوائح لتنظيم تدفق المعلومات عبر الحدود وكفالة حقوق الشعوب فى التنمية والمعرفة ضرورة حتمية للقرن الحادى والعشرين. ولا يمكننا الإقلال من شأن إيجابية تكنولوجيا الإنترنت ونقل المعلومات فى أوقات العزل بسبب الكورونا، التى يعيشها العالم أجمع، وما ساهمت فيه من نشر المعلومات اللازمة بالنسبة للعلاج والرعاية ومواصلة التعليم سواء على مستوى المدارس أو الجامعات ومواصلة الشركات لأعمالها. فلا غنى ولا بديل عن التدفق الإلكترونى والحفاظ على حريته.
وعلينا ألاّ نتناسى أن تعى مصر أهمية تداعيات هذا الانفتاح على اقتصادها وتقدير آثاره المحتملة دون مبالغة وأن تلحق مصر بركب التقدم دون السماح للقطار أن يفوتها وأن تشارك فى وضع قواعده فى المحافل الدولية دون خوف أو تردد. كما أنه عليها أن تراعى التوازن فى سياساتها الوطنية دفاعا عن مصالحها المشروعة دون مزايدة فى الحماية الرقمية والتى قد تحول دون مواكبة التقدم وجنى ثماره. وفى ضوء الدور النشط الذى تقوم به مصر فى إطار اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية، يتعين علينا أيضا أن نسعى إلى توطين المنصة الإلكترونية للقارة الإفريقية داخل حدود مصر، بما يتناسب والأهمية التى اكتسبها هذا الموضوع أثناء الرئاسة المصرية للاتحاد الإفريقى فى العام المنصرم. وعلى البيروقراطية المصرية أن تلحق ببُعد النظر والرؤية الحكيمة وبعيدة المدى للقيادة السياسية.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved