أشباح الغرفة رقم 804

عماد الدين حسين
عماد الدين حسين

آخر تحديث: الجمعة 16 أبريل 2021 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

حينما دخلت غرفة العزل رقم ٨٠٤ بالمستشفى فى الليلة الأولى، لم أكن واعيا بخطورة حالتى.

كنت محموما ودرجة حرارتى مرتفعة، لكن الأخطر أن نسبة الأكسجين فى الدم كانت أقل من ٩٠٪.

دخلت السرير محاولا النوم، لكن بدأت أتذكر قصص من أصيبوا بكورونا.

بحكم عملى الصحفى، فقد قرأت الكثير من القصص لمصابين، لكن لا أعرف لماذا تذكرت حكاية الطبيب الإيطالى الذى أصيب بكورونا فى الموجة الأولى للفيروس، وأظن أن ذلك كان فى ميلانو.

هذا الطبيب كتب يقول إنه رغم شدة الإصابة إلا أنه كان يشعر بأن حاله أفضل نهارا، وعندما يحين الليل يختلف الوضع تماما. لم يكن قادرا على النوم. كان يرى الأشباح والخيالات والأطياف والعفاريت ورسل الموت تحيط به من كل جانب. كان يتمنى أن ينام الليل حتى تنتهى هذه المطاردة الشيطانية التى تصيبه بالرعب.

حاولت طرد هذه الصورة الإيطالية من ذهنى، لكن لم أستطع. كانت حالتى خليطا من ارتفاع الحرارة ونقص الأكسجين، واختلال فى العديد من وظائف الجسم الحيوية.

بعد إجراء التحاليل السريعة وتركيب سلك الأكسجين فى أنفى، حاولت النوم بكل الطرق فلم أفلح.

لم أكن قادرا على شم أى شيء، صدرى يضيق، وفى اللحظات التى بدأت أنام فيها، عادت تطاردنى الأشباح الإيطالية التى حكى عنها طبيب ميلانو.

هذه أصعب مرض أصاب به منذ سنوات طويلة، ولا أتذكر أننى أصبت إصابة مزعجة ومؤلمة مثلها، حاولت التركيز فى حالتى، لكن شدة الآلام كانت صعبة ولا تطاق.

فى الليلة الأولى بدأت أهيئ نفسى أننى قد لا أنجو من هذه الإصابة الشديدة، خصوصا أن كثيرين تعرضوا لنفس الأعراض التى أشعر بها ولم ينجوا منها.

فى الليلة الثانية استمرت نفس الأعراض الصعبة خصوصا ضيق التنفس واستيقظت صباحا، ومازلت غير قادر على التنفس الجيد.

تصورت فى هذا الصباح أننى قد لا أنجو من هذه الإصابة.

وبدأت أفكر مليا فى مجمل حياتى السابقة. كنت مهوما بفكرة واحدة، وهى :ماذا لو مت، وماذا تركت لزوجتى وأولادى الأربعة وجميعهم فى مراحل تعليمية من الرابع الابتدائى حتى ثانية جامعة؟ وماذا سيفعلون فى حياتهم بعد موتى، ولماذا لم أكن حريصا، على تأمين مصاريف تعليمهم وحياتهم بصورة لائقة؟!

ظلت هذه الأفكار الشيطانية تلاحقنى لأيام وأنا محموم بصورة كبيرة، ولم يخفف منها إلا الاستماع إلى القرآن الكريم من جهاز التليفزيون الموجود فى الغرفة ورسائل شديدة الود من معارف وأصدقاء وزملاء.

هذه التجربة ستظل ماثلة فى ذهنى ما حييت. أن تظل محجورا ومعزولا فى غرفة، لا تستطيع أن تخرج منها، أمر لم أجربه من قبل طوال ٥٦ عاما من كل عمرى.

لكن مع تحسن الحالة شيئا فشيئا بدأت أكتشف أننى يفترض أن أستفيد كثيرا من هذه المحنة التى انقلبت إلى منحة بفضل الله ودعاء الأحبة. ويومها تلقيت اتصالا من صديق عزيز قال لى نفس الفكرة تقريبا وهى ضرورة أن أخرج من هذه التجربة وقد استفدت منها إنسانيا. 

حينما تنعزل عن كل العالم تبدأ فى التفكير فى أمور جوهرية. تكتشف أن بعضا من حياتك شديد العبث، وإهدار للوقت بصورة كبيرة. وأن هناك أمورا روحية وإنسانية يفترض أن يهتم بها الإنسان، وأن يستغل حياته بصورة أفضل فى عمل الخير. والحرص على الأمانة والإنسانية ومراعاة مشاعر الناس خصوصا البسطاء والمحتاجين.

أيام العزل فى الغرفة رقم ٨٠٤ بدأت شديدة الكآبة والوحشة. لكنها انتهت بتجربة ثرية ووقتها أدركت حقيقة أنه فى كل محنة هناك منحة، أسأل الله أن أستفيد منها قدر الإمكان. ويارب ما يكتب على أحدكم ما رأيته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved