عن الأدب والالتزام والبرج العاجى

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 16 أبريل 2022 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

لا أعرف ما هو أهم للكاتب وللفنان، ولا أكثر أخلاقية، من أن يكون ملتزما تجاه فنه وموهبته بالأساس، وأن يخوض فى كل مرة معركة صعبة وشاقة، فى تحويل أفكاره وتجربته إلى فن، وفى التعبير عن المعنى والحالة بلغة الفن الذى يبدع فيه، وفى البحث عن معادل يجعل التجربة نصا، أو بيتا من الشعر، أو تمثالا منحوتا، أو جملة موسيقية، أو ألوانا فى لوحة.
هذا هو مفهوم الالتزام كما أراه، وهذا هو واجب الكاتب والفنان الأول.
يحلو لى دائما أن أتخيل مولد الفن بمشهد خاص وذاتى تماما: إنسان بدائى هاجمه الوحش، فهرب منه إلى كهف مظلم، وظلَ خائفا مرتعشا فى داخله، يستمع إلى صوت الوحش خارج الكهف.
فى لحظةٍ ما، أمسك إنسان الكهف حجرا، وبدلا من أن يلقيه على الوحش، قرر أن يحفر على جدران الكهف صورة الوحش، فى هذه اللحظة ولد الفن.
تجربة ذاتية مطلقة، أخذت من الموضوع الخارجى مادة للعمل، ولكنها ــ جوهريا ــ استجابة لمخاوف الذات العارمة، التى صنعت توترا، أفرز رسما بدائيا، هو فى عقل صاحبه معادل للوحش.
بعد أن تأمل إنسان الكهف «معادل الوحش» استراح، وأدرك أنه سجن الوحش فى الجدار، فامتلك خوفه، بعد أن كان الخوف يحاصره، وبعد أن هدأ قليلا، فكَر إنسان الكهف أن هذا الرسم يستحق أن يراه إنسان آخر لا يعرفه، فيمتلك الوحش مثله، ثم فكر إنسان الكهف أخيرا فى أن هذا الرسم المحفور سيبقى حتى بعد موته، عنوانا على تجربته الخاصة، التى تشاركها مع آخرين، قد يحاصرهم وحش آخر، فى نفس المكان.
هكذا تبدو بالنسبة لى تجربة الفن والكتابة: امتلاء بالموضوع، يؤدى إلى توترٍ عارم وقاهر، هذا التوتر يصنع فنا أو كتابة.
الموضوع مهم وأساسى، والمحيط الخارجى مؤثر بالتأكيد، ولكن ذات الكاتب والفنان هى المحور، والفن فى ذات الفنان، وليس فى موضوعه، الفن ليس فى الوحش القابع على باب الكهف، ولكنه فى «انفعال» انسان الكهف وخوفه الذى أفرز توترا، فحفر رسما على الجدار.
ولد التزام الفنان، والكاتب بالتالى، تجاه تجربته بالأساس مع أول محاولة للتعبير، وقبل ظهور المجتمع، فإذا فكر إنسان الكهف فيما بعد فى أن إنسانا ما مثله سيرى خوفه المحفور، فإن ذلك لا يقلب عناصر اللعبة أبدا، فالباعث الأصلى على الرسم خارج من الذات إلى الآخر، حتى لو ألهم به موضوع خارجى، والمشاركة ستعطى الرسم تأثيرا عظيما وقويا، ولكنها لن تصنع الفن نفسه، واعتقاد بشر آخرين أن الرسم المحفور يعبر عن مخاوفهم أيضا، لا يعنى أكثر من براعة الفنان فى التعبير عن تجربته هو، بإبداع وابتكار، ولأن البشرية تتشارك فى المشاعر والأفكار والتجارب، فإن تجربة الفنان والكاتب الخاصة تصبح تجربة عامة، ويصبح الصوت الخاص أصواتا كورالية تردد خلف الكاتب أو الفنان، وتعترف بمقدرته على التعبير عما لم تستطع هى أن تعبِر عنه.
تلك هى المعادلة الأصلية الصحيحة، ومن هنا يبدو عجيبا الحديث عن ضرورة «التزام الفنان والكاتب تجاه قضايا مجتمعه»، و«حتمية التعبير عن وجدان الأمة»، بل لقد صارت هذه النظرة البائسة معيارا لتقييم الكاتب أو الفنان، فهذا كاتب ملتزم لأن له رواية فى كل قضية عامة، وهذا شاعر عظيم لأنه يقول قصيدة فى كل مناسبة، وكأن الكاتب والفنان معلق على مباريات المجتمع، وكأنه يكتب بالريموت كونترول!
لا يعنى ذلك أن الكاتب أو الفنان لن ينفعل أبدا بما يدور حوله، ولكن المقصود ألا يأتى عمله استجابة خارجية للموضوع، بصرف النظر عن انفعاله به، أى أن يرسم الوحش، لأن الناس تريده أن يفعل ذلك، أو أن يرسمه كما يريده الآخرون، لا كما يراه الفنان فى مرآة موهبته وأسلوبه.
فلنختبر هذه الفكرة مع كتاب يصنفون بأنهم عبروا عن مجتمعهم، بينما هم فى الواقع كانوا يعبرون عن تجربتهم الذاتية: فقد صمت نجيب محفوظ لسنواتٍ لم يكتب فيها رواية، وكان العالم حوله يتغير جذريا، حتى عثر أخيرا على نغمة تناسب مقام هذا التغير، فعاد إلى الكتابة، فرض انفعاله كتابته، وليس العكس.
وأسامة أنور عكاشة لم يكن ناقلا لشخصيات وتفاصيل وحكايات مجتمعه، ولكنه كان يعبِر بالأساس عن رؤيته الذاتية للتغيرات التى يعيشها، كان المجتمع مادة تعكس انفعالا ذاتيا، وتفكيرا خاصا، وهواجس مؤرقة، حول الصراع بين الواقع والمثال، وبين عالم يعرف ثمنا لكل شىء، ولا يعرف قيمة لأى شىء.
وأحمد فؤاد نجم أديب عظيم ليس لأن شعره يترجم مواقف سياسية واجتماعية، فهذه المواقف يمكن ترجمتها فى مقالاتٍ أو فى مظاهرات أو فى مناقشات، ولكنه كاتب عظيم لأنه «شاعر عبر بفن» عن تلك الموقف، وصنع صوتا يخصه فى التعبير، هذه ليست مواقف عامة، حتى ولو كانت تتناول أمرا نشرته الصحف، وحتى لو كانت تتحدث عن مسائل سياسية معروفة، لقد صارت تجربة فنية ذاتية برؤية أحمد فؤاد نجم، الفن «يخصخص» العام، فإذا تشارك الناس مع الفنان فى التفاعل مع تجربته، عاد الخاص عاما من جديد، هذا هو سحر اللعبة، وهذا هو قانونها الصحيح.
يعنى كل ذلك أنه من الخطأ الحديث عن نوعين من الكتاب: كاتب البرج العاجى، وكاتب المقهى والناس، لأن كل كاتب فيه كلا الأمرين: ينفعل بالموضوع الخارجى، ويتأثر به، ويكتب عن المجتمع والناس، ولكنه عندما يترجم ذلك، يصعد إلى برجه العاجى، لينقل أثر هذا الانفعال على ذاته، ويخوض صراعا مريرا لترويض اللغة، والسرد، واللون، والنغمة، حتى يتحول هذا الانفعال إلى فن أو كتابة، وهذا هو معنى التزامه المطلق تجاه فنه.
طموح الكاتب أن يتمثل الوحش ويروضه فنا وكتابة، وأن يصل إلى لحظة ذوبان الموهبة فى الحرفة فى الموضوع، وهذا بالضبط هو تعريف «الإبداع».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved