من المجرم الأخطر؟

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الإثنين 16 مايو 2016 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

لو قيض للبريطانى مارك سايكس والفرنسى فرنسوا جورج بيكو أن ينظرا إلى ما ارتكباه فى مثل هذا اليوم قبل مائة عام لربما شعرا بألم فظيع. لكن أقلام القوى العظمى عند المنعطفات الكبرى تشبه السكاكين التى تحركها شراهة المصالح لا دموع ذوى المريض.


فوق بحر من الركام واللاجئين والأرامل والأيتام يطفئ اتفاق سايكس ــ بيكو اليوم شمعته المائة. قرن كامل مر على تلك الجريمة. اتفق الرجلان على تقاسم تركة «الرجل المريض» وولدت من خطوط قلميهما خرائط لم تأخذ فى الاعتبار المعطيات الدينية والطائفية والقبلية والعشائرية. وفى العام التالى ستطل جريمة أخرى عبر «وعد بلفور» الذى سيؤسس لنار لا تنطفئ.


من حفنة السنوات التى أعقبت ذلك الاتفاق ستولد جروح كثيرة. جرح العرب الذين سيعتبرون أنفسهم ضحية خديعة أجهضت حلمهم بدولة عربية كبرى تحتل مكانها تحت الشمس. وجرح مسلمين رأوا فى سقوط الخلافة الإسلامية إعلانا لغروب شمس المسلمين ووقوع مصيرهم فى أيدى من لا يشبهونهم. وجرح فلسطينى وعربى سيحمل اسم النكبة بعد قيام دولة إسرائيل على أراضى الفلسطينيين وركام حقوقهم. وجرح كردى من رؤية شعب كامل يتوزع أقليات مقهورة فى أربع خرائط.


***

بعد مائة عام هذا هو المشهد. ألغى «داعش» الحدود العراقية ــ السورية وأعلن عودة «الخلافة» لكنه ألحق بسنة «الهلال» نكبة ستظهر الأيام أنها أخطر بمرات من سقوط الخلافة العثمانية. وتمزقت دول عربية أساسية بما يؤكد أن نكبة العرب الحالية أشد وطأة من نكبة فلسطين. بدت الخرائط مصطنعة ومستباحة على أيدى المقاتلين الجوالين والميليشيات وتأهبت أقليات للالتحاق بخرائط أكبر أو رسم خرائط أقل.


لم تتطابق مشاعر الناس مع الخرائط التى فرضت عليهم. ولم تكن المجتمعات جاهزة لاستخلاص الدروس من الماضى وويلاته وعبره. قرار التعايش مع الآخر المختلف لم يكن حاضرا لا داخل الخرائط ولا على حدودها. وبدت فكرة الدولة والمؤسسات نباتا غريبا لا تصلح التربة لاحتضانها. إنها مأساة ثقافية قبل أن تكون سياسية.


أطل المستبدون. من الثكن أو من عقائد تشبهها. ريفيون بأفكار بسيطة قاطعة وبعطش هائل وجوع رهيب. حولوا نعمة الاستقلال نقمة ونكبة. روجوا الشعارات المخدرة ونهبوا خيرات البلدان وكان برنامجهم الحقيقى من نقطة وحيدة: الإقامة فى القصر إلى أن يحين موعد القبر. تاجروا بأحلام الناس وانتزعوا أسنان المعارضين وأصابع المعترضين وأرواح المحتجين. حولوا خرائط سايكس ــ بيكو معتقلات. اعتبروا كل اختلاف مؤامرة وخيانة ونصبوا الدستور خادما ذليلا يلتف كالحبل على أعناق المواطنين وأطفالهم.


أغلق المستبدون كل الشبابيك. حجبوا أضواء العصر عن مواطنيهم. اعتبروا المواطن جاسوسا لا تسقط عنه التهمة إلا إذا مشى على جبينه مادحا ومصفقا. ولغوا فى الظلم. والاستبداد. والتهميش. والتمييز. طحنوا كرامة المواطن ووزعوا خبز الرعب. أفسدوا القاموس. والمدارس. والمناهج. والأحزاب. والنقابات. والجامعات. والأغانى. والقصائد. وحده الفساد كان النديم الدائم للاستبداد.


***


لم يعد المواطن يصدق شيئا. ولم يعد يصدق أحدا. وكان يسارع إلى إخفاء ابتسامته كلما برر الحكم شيوع الفقر بحجم أعباء التصدى للإمبريالية والصهيونية. وراحت البلاد تنحدر. من قاع إلى قاع. لا يهجس المواطن بغير سلامته فيما العالم يشهد ثورات علمية وتكنولوجية متلاحقة وفيما المواطن هناك يعيش فى ظل دولة القانون والمؤسسات.


لا الدولة الطبيعية قامت ولا المواطن الطبيعى مسموح. فضحنا «الربيع العربى» حين انتابنا. كأنه وضعنا أمام الخيار القاتل: إما الظلم وإما الظلام.


فى ذكرى سايكس ــ بيكو يسأل العربى نفسه: من المجرم الحقيقى؟ هل هو الغريب الذى دبج الخرائط على عجل أم هذا الذى استولى على الخريطة وأخذنا معها إلى الهاوية؟ تحتاج الخرائط إلى صيانة وعناية. إلى قرار تعايش وإلى فكرة الدولة والمؤسسات. إلى التنمية والشراكة. المجرم الأخطر ليس من ارتجل الخريطة. المجرم الحقيقى هو من زرعها بالموت والفقر واليأس.

غسان شربل

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved