مانيكان

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 16 مايو 2019 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

وضَعَت صاحبتنا يدها على خدها وجلست تراقب حركة الناس في الشارع لا يفكر أحدهم أن "يُمّيِل" على المحل ويدخل ولو من باب الفرجة على البضاعة. في هذه الأيام المفترجة تتوفر كل مغريات الشراء الممكنة: موسم الأعياد وبشائر الصيف ونظام التقسيط والتخفيضات علي الموديلات القديمة.. إلخ، ومع ذلك يمر اليوم بطوله فلا يدخل المحل إلا زبائن أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، ونادرا ما يشتري منهم أحد. الحالة الاقتصادية قصمت ظهور الناس فيمرون من أمام ڤاترينة المحل يرونها ولا يرونها. أعادت تنسيق الڤاترينة لعل وعسى واطمأنت على النجوم المدلاة من أعلى تنتظر زحف الليل لتتلألأ وتضوي، احتفت احتفاء خاصا بالثوب الأحمر الساتان الذي تدفع عمرها كله ثمنا ليوم واحد ترتديه وتخرج به مع حبيب القلب لتناول العشاء، شال أسود من الشيفون مع عقد بسيط من اللؤلؤ يكملان الصورة فتتحول إلى أميرة من أميرات الأساطير. وضعت الثوب الأحمر على أجمل مانيكان في الڤاترينة وأملها أن يخطف الأنظار كما خطف قلبها. حانت منها التفاتة إلى صاحب المحل فوجدته يرميها بنظرات تنمر لكأنها هي المسؤولة عن حالة الكساد، فتحت فمها لتدافع عن نفسها لكن لم تدافع، تمتمت: الطيب أحسن. عموما كل من عملت لديهم من قبل كانوا على شاكلة مستر فؤاد يعلقون ضعف حركة البيع على شماعة البائعات، ينسون أنها حصلت علي كورسات في التسويق وأنها تعرف جيدا العوامل التي تتحكم في العرض والطلب، ينسون أو يتناسون.

***
في صباح هذا اليوم كانت حركة السير أمام المحل في أوجها كالمعتاد، وكالمعتاد أيضا لم يغامر أحد بالدخول، تحاشى مستر فؤاد وضع الأسعار على البضاعة بغرض التمويه لكن دون فائدة، أصبح استدراج الزبائن إلى الداخل لعبة مكشوفة يعلمها الجميع، يا مسهّل يا رب. شعرت بسماجتها وهي تدعو المارة إلى الدخول لإلقاء نظرة، فمنهم من اعتذر لها بأدب ومنهم من لم يلق إليها بالاَ. تذكرت مشهد وكيل المحامية في فيلم "الأستاذة فاطمة" عندما كان يقف خارج مكتبها ليخطف الزبائن من المحامي المنافس في نفس العمارة، ثم لم تلبث أن طردت هذا المشهد المهين من ذاكرتها، لا يوجد أصلا وجه للمقارنة بينها وبين وكيل المحامية، هو كان يخطف الزبائن أما هي فحاشا لله.

***
خفق قلبها بشدة عندما توقفت أم وابنتها أمام المحل وتبادلتا نظرات تفهمها صاحبتنا جيدا، اتفضلوا، قالتها بصوت خفيض فتفضلتا. أشارت الابنة إلى الثوب الأحمر في الڤاترينة وسألت على مقاسها. يا لها من صاحبة ذوق رفيع هذه الفتاة الشابة.. اختارت أفضل ما في المحل على الإطلاق، الأروع أن لها نفس مقاس صاحبتنا، هي إذن فرصتها لترى نفسها من خلالها، علّقت على طلب الزبونة الشابة بكلمة دالة من ثلاثة حروف لا أكثر: هوا. عندما أزاحت الفتاة الستار وراحت تتأمل نفسها في الثوب الأحمر أحست صاحبتنا بدوار ولعبت الأماني برأسها كما تلعب الخمر بالرؤوس، حدثّتها نفسها قائلة: هل أنت تريدين فعلا بيع الثوب الأحمر؟ في الحقيقة ليست متأكدة تماما من الإجابة، إن هي باعته سوف تكسر النحس الذي يقول صاحب المحل إنه يلازمه منذ أسابيع، لكن في الوقت نفسه لن يعود بإمكانها أن تجرّب الثوب البديع، وحده هذا المقاس يناسبها، أكبر منه لا وكذلك الأصغر، لماذا لم تجربه إذن فور وصوله بالأمس؟ تعب ، تراخ ، انشغال ، لم تجد فرصة، أي سبب والسلام.

***
دارت الزبونة حول نفسها دورة كاملة أمام المرآة وشبّت على أطراف أصابعها كما لو كانت راقصة باليه، تلفتت حولها فلم تجد أمها، سألت صاحبتنا ونظرات الإعجاب تتقافز من عينيها: حلو؟ وكمثل طلقة مدفع تعرف هدفها جاءت الإجابة كالتالي: جدا، هزت الزبونة رأسها بالموافقة واختفت. غرقت صاحبتنا في أسئلة بلا آخر: هل قررت الزبونة شراءه؟ يبدو هذا، أين ستظهر به لأول مرة .. حفل سينما، يوم التخرج، خطبة صديقة، خطبتها هي نفسها؟ كل شيء وارد وكل الاحتمالات لا تعنيها. أزاحت الزبونة الستار مجددا وردّت الثوب الأحمر معتذرة عن عدم شرائه فطاش صواب صاحبتنا، ماذا تقول نظريات التسويق في مثل هذه الحالة التي يتبدّل فيها رأي الزبونة خلال ڤيمتو ثانية؟ تباَ لنا نحن النساء ما يدور في أذهاننا لا تفسره أي نظرية. اختلط في داخلها السرور بالقلق فابتسمت وقطّبت جبينها.

***
عندما ذهب مستر فؤاد ليأخذ قيلولته اليومية كالمعتاد، تسللت صاحبتنا وسحبت الثوب الأحمر الذي كانت تجربه الزبونة إياها. أسدلته على جسدها الممشوق وأزاحت طرحتها فانسدل شعرها المموج ليستر بعضا من بياض كتفيها. نظرت إلى المرآة وكان من المفترض أن تنبهر فلم تنبهر، وجدت أن المثل القائل: تلبس ثوبا غير ثوبها ينطبق عليها حرفيا، بدا التناقض كبيرا بين زهوة الأحمر وشحوب وجهها، بين نعومة الساتان وخشونة أطرافها، باختصار لم تستحسن نفسها. إنها ليست مثل المانيكان في ڤاترينة المحل تلبس أي شيء وكل شيء، إنها بشر من لحم ودم، ولأنها كذلك فعليها أن تُغير حالها لينسجم مع الثوب الفخيم، أما قبل ذلك فإنها لن تشبه الزبونة الشابة أبدا. أعادت الثوب الأحمر إلى حيث كان ولم تعد تمانع في أن تشتريه صاحبة النصيب، تلبّسَها شعور بالتحدي فوضع قدمها على أول طريق التغيير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved