ديمقراطية زووم

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 16 مايو 2020 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

استيقظت على رسالة من سيدة مجهولة، صوتها انطلق عبر الهاتف المحمول تقول ما معناه- من خلال فيديو سجلته ووضعته على اليوتيوب- إنها حاولت السكوت منذ بداية الأزمة، لكن حان أوان أن تشارك برأيها في موضوع الكورونا، واستمرت بعدها في الإفتاء. نظرت إلى وجهها الصبوح على الشاشة ولم أعرف بما يمكن أن أعلق، واستحضرتني على الفور كلمات العقيد القذافي الشهيرة: "من أنتم؟"، من كل هؤلاء الذين صار لهم الحق في بث تسجيلاتهم ونشر أفكارهم، مهما كانت تافهة، على الشبكات الاجتماعية وغيرها، ثم يتناقلها الناس ويصبح مضمونها أحيانا موضوعا للنقاش والتبادل؟ فحاليا نحن متفرغون أكثر من أي وقت مضى لاستقبال المزيد من الفيديوهات الشارحة وللرد بمثلها، دون أن نغادر المنزل أو حتى الفراش.
الفيديو في وقتنا هذا هو الوسيلة المثلى للتواصل مع الآخرين، وهو جذاب للغاية، يعطينا انطباعا بالتقارب في زمن التباعد الاجتماعي المفروض علينا بسبب الظروف. وقد أفادت بعض الدراسات التي أجريت بهذا الصدد أن المتلقي يستطيع تذكر 20% مما يسمع، و30% مما يرى، لكن يحتفظ ب70% مما هو مسموع ومرئي، وبالتالي حرص الكثيرون على تسجيل مواقفهم بالصوت والصورة خلال الفترة الماضية ليصلوا إلى أكبر قدر ممكن من الناس، سواءً كانوا شركات أم أفراد أم حكومات.
***
سرعت الكورونا من وتيرة انتشار الفيديو وضاعفت أهميته، لكن جاء ذلك في إطار تطور منطقي وطبيعي، نظرا لدور الإنترنت منذ تسعينات القرن الماضي وتسلسل الأحداث والتقدم العلمي الذي جعل هنالك مجالا أوسع للتشاركية ولإبداء الرأي الشخصي من خلال الشبكة العنكبوتية، خاصة مع ظهور تقنيات الويب 0.2، في بداية الألفية الثانية، التي صاحبها تغيير واضح في سلوك المستخدمين بأن صار لهم دور أكبر من خلال التطبيقات المختلفة التي تطالعنا كل يوم بالجديد. في فترة حلت المدونات محل مقاهي القرن التاسع عشر، فكل فرد مهما صغرت مكانته الاجتماعية يمكنه أن يحاور الآخرين ويتحول إلى قائد للرأي، ثم تلاها فيسبوك وتويتر إلى ما غير ذلك. ومؤخرا تنامى هذا الدور في ظل إغلاق المقاهي والمطاعم والمدارس والجامعات وبعض أماكن العمل ومساحات الفضاء العام. صرنا بحاجة أكثر إلى التواصل صوت وصورة للتغلب على الأزمة والإقامة الجبرية في المنازل. وتحول مفهوم العمل عن بعد الذي كان موضع تجارب لوقت طويل إلى حقيقة وواقع يومي لا يمكن تفاديه، إذا أردنا أن نستمر وتستمر أشغالنا. وبالتالي كان لابد من الإقبال على برامج وتطبيقات مثل "زووم" وأخواته، لكي نتمكن من التواصل بشكل فعال.
صارت فيديوهات "زووم" هي عنوان المرحلة، وتحول هذا التطبيق المتوفر منذ عام 2011، والذي اقتصر استخدامه في البداية على أغراض البيزنس وإنجاز الأعمال، إلى ضرورة يومية. صار المكان الأمثل للتلاقي، فهو يتيح محادثات الفيديو بين أصحاب العمل وموظفيهم وأيضا بين الأصدقاء والأهل الذين لا يرغبون في التنقل وتبادل الزيارات، وكذلك بين الأساتذة والطلاب فيما يتعلق بإلقاء المحاضرات والتعلم عن بعد.
***
بين ليلة وضحاها أصبح جزءً من حياتنا، وفي يوم واحد، خلال مارس الماضي، سجل "زووم" ستمائة ألف مشترك جديد بسبب الحظر. طبيب يقترح طرق علاج وآخر يدعو لتطبيق بروتوكل العالم الفرنسي المشاكس ديديه راؤول واستخدام الكلوروكين، عالم اجتماع سياسي يتحدث عن مستقبل ما بعد الكورونا، سيدة تروي حكاياتها مع الوباء، موسيقِيّ يعزف مع آخرين في الوقت ذاته من أماكن مختلفة، حفل زفاف افتراضي على الهواء مباشرة، وصلات طبخ جماعية، جميعها مداخلات تتم من خلال برنامج الفيديو سهل الاستخدام الذي يقدم خدمة مجانية لمدة أربعين دقيقة أو ما يشابهه من برامج وتطبيقات. ورغم كل التحذيرات التي تشير إلى حدوث خروقات ووجود خطر على المعلومات الخاصة بالمشتركين واعتذار المسؤولين عن برنامج "زووم" وتوضيحهم أن نقاط ضعفه ترجع إلى أنه لم يكن مصمما في الأصل لاحتواء مثل هذه الأعداد الضخمة، إلا أننا مستمرون في استخدامه. تعودنا ربما فكرة "العيش على المكشوف" أو أن لكل شيء إيجابي سلبيات يجب تقبلها أو أن التقدم التكنولوجي يصب أحيانا في خانة أمنية تجعل سهولة التتبع من سمات العصر.
***
لا تزال أدبيات "زووم" وأخواته قيد الإنشاء، القواعد الاجتماعية الخاصة به لم تتبلور تماما بعد: هل يحق لي أن أعتذر خلال مكالمة الفيديو للذهاب إلى المرحاض؟ هل من الأدب تناول الطعام أثناء اللقاء الافتراضي؟ هل يمكن للقطة أن تظهر معي؟ هل يجب ارتداء كامل ملابسي أم الاكتفاء بالجزء العلوي كما يفعل البعض حينما يلبسون قميص ورابطة عنق على بنطلون البيجاما؟ هل ستنجح تطبيقات أخرى أقدم مثل سكايب الموجود على الساحة من سنة 2003 في جذب الانتباه وتقديم خدمات مماثلة؟ هل دخول الصورة على الخط بهذا الشكل سيجعل من الضروري اكتساب مهارات تواصل أخرى لم تكن بالضرورة متوافرة في كل الناس؟ هل ستكون هناك دورات خاصة للتدريب على تلك المهارات؟
بالطبع الأجيال التي ستنشأ في ظل هذه التقنيات ستعتاد الظهور على الشاشات والتحدث أمام الكاميرا بلباقة وإيجاز بهدف إيصال المعلومة. طريقة الكلام ستتغير والمضمون أيضا سيطرأ عليه بعض التعديلات. لو لاحظنا تصرفاتنا مؤخرا سنجد أننا نراعي الشكل بطريقة أخرى، كأننا نجري اجتماعات العمل أمام المرآة. نعم نستطيع إخفاء كركبة الغرفة أو إضافة خلفية أخرى غير التي نجلس أمامها، لكننا نظهر في الصورة ونشارك ونسخر ونتحدث أمام الميكروفون ونتعلم كيف نبدو طبيعيين وكيف نخفي اضطرابنا وكيف ننظر في عين الآخر عبر الشاشة لأن هذا شرط من شروط نجاح التواصل، لأن الأشخاص يحبوا أن يشعروا أن هناك من يراهم... كلها أشياء جديدة سنتدرب ونتعود عليها، في ظل دمقرطة استخدام الفيديو وتنامي دور الواقع الافتراضي وتغير شكل العمل والشركات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved