الديمقراطية والسلطوية فى مواجهة الوباء

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 16 مايو 2020 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

مواجهة الوباء العالمى أثارت مسألة الأساليب الديمقراطية أو السلطوية المستخدمة فى هذه المواجهة، من جانب، وسؤالا بشأن أيهما أكثر كفاءة فى هذه المواجهة، الأنظمة الديمقراطية أم السلطوية، من جانب آخر. الأساليب الديمقراطية هى تلك التى تحترم حريات الناس وخصوصياتهم فى مقابل السلطوية التى لا تعبأ بها. أما المقصود بالأنظمة الديمقراطية فى هذا المقال فهى تلك التى توجد فيها، فضلا عن القضاء المستقل، برلمانات منتخبة فى انتخابات عامة حرة غير معروفة نتائجها مسبقا، برلمانات تمارس الرقابة الفعلية على أنشطة السلطات التنفيذية وأدائها وعلى اضطلاعها بالوظائف الموكلة إليها دون تغول على المجتمعات والأفراد. الأساليب وأنظمة الحكم مرتبطة وإن كانت العلاقة بينها ليست واضحة بالضرورة.
الأساليب المستخدمة تتعلق بالعلاج وبالوقاية من أجل الحيلولة دون انتشار الوباء. هذه الأساليب نجحت إلى حد يعتد به فى مساعدة المرضى بكوفيد ــ 19 على التعافى منه، وفى تخفيض أعداد المصابين بالفيروس وفى درء انتشاره فى الصين وفيتنام وسنغافورة وكوريا الجنوبية وألمانيا وسويسرا وفرنسا وغيرها، على اختلاف طبيعة الأنظمة السياسية فيها بين السلطوية والديمقراطية.
العلاج ليس موجودا بعد ولكن المقصود به هنا هو مساعدة المرضى على التعافى. هذه مسألة طبية وإن كانت لم تخل من السياسة من جانبين. الجانب الأول هو التنازع بين المصلحة السياسية لرجل السياسة ونصائح الخبراء مثل حالة الرئيس الأمريكى الذى أوصى باستخدام أحد الأدوية على عكس رأى الخبراء الطبيين. الجانب الثانى هو أن ضرورات علاج المصابين بكوفيد ــ 19 كشفت عن سلامة سياسات الصحة العامة أو عن قصورها سواء بوجود التجهيزات الضرورية لعلاج المصابين أو نقصها، أو بالاستعداد لإنشاء هذه التجهيزات وتحضيرها بسرعة أو العجز عن ذلك. نقص التجهيزات أدى أحيانا إلى الاختيار بين المرضى، أيهم يعالج وبناء على أى معايير؟ التضحية بعدد من المرضى أمكن التورية عليها لأن هذا العدد بقى محدودا، ومع ذلك فهى أثارت مسألة الأساليب الديمقراطية أو السلطوية فى تحديد أولويات السياسات العامة والموارد المخصصة لكل منها وكفاءة تنفيذها. لم تنشر بيانات، وربما لم تجمع، عن الحالات التى اضطر فيها الأطباء إلى الاختيار بين المرضى لحجزهم فى وحدات العناية المركزة وتزويدهم بأجهزة التنفس بناء على تقدير هؤلاء الأطباء لفرص تعافى المرضى المتنافسين على أسرة وأجهزة غير كافية. ولكن المعلومات موجودة عن أن نُظما سلطوية مثل النظام السياسى الصينى، ونُظما ديمقراطية، مثل نظامى ألمانيا وسويسرا، استطاعت سريعا زيادة التجهيزات لعلاج المرضى بكفاءة فى الصين وإلى حد أن سويسرا لم تحتج إليها أصلا.
غير أن إجراءات الوقاية هى التى تثير وبشكل خاص مسألة الأساليب الديمقراطية أو السلطوية. إغلاق المطارات، وعزل مدينة بأكملها، وإجراء الاختبارات، والحجز فى المنازل بصرامة شديدة فى بعض الأحيان، وفرض لبس الكمامات، وإغلاق المصانع والمتاجر والمطاعم والمقاهى والفنادق هى أساليب تحد من الحريات العامة، لجأت إليها نظم سلطوية وديمقراطية. فى النظم السلطوية لا مشكلة فى ذلك فهى ليست فيها برلمانات تُسأل أو آراء عامة تحتج وتطالب. أما بالنسبة للأنظمة الديمقراطية فإن الإجراءات المتخذة وإن كانت تحد من الحريات العامة فهى تحقق غاية أسمى هى حماية الصالح العام. وعلى أى حال الحريات والحقوق المذكورة من تلك التى يمكن تعليقها فى حالات الطوارئ العامة بخلاف الحق فى الحياة أو الحق فى محاكمة عادلة أو الحق فى عدم التعرض للتعذيب أو للمعاملة المهينة وهى حقوق لا يمكن تعليق الالتزام بها فى أى ظرف من الظروف فى القانون الدولى العام. إضافة إلى ذلك، فلاحترام النظام الدستورى فى كل منها أعلنت إسبانيا مثلا «حالة الاستثناء»، وهى حالة أدنى من الطوارئ، كما أعلنت فرنسا «حالة الاستثناء الصحى»، ووافق البرلمان، المنتخب فى انتخابات حرة غير معروفة نتائجها مسبقا، فى كل من البلدين على إعلان الحالتين.
أكثر الأساليب إثارة للجدل هى تتبع حركة الأفراد من أجل تحديد من يخالطهم المصابون بالفيروس حتى لا ينشروه هم بدورهم بين من يخالطوهم بعد ذلك. تتبع التحركات يمكن أن تستخدم فيه إما أنظمة تتبع مواقع الأفراد عن طريق الأقمار الاصطناعية التى تتلقى إشارات من الهواتف المحمولة، وإما من خلال الإشارات فيما بين الهواتف المحمولة نفسها والتى تُبَثُ باستخدام تكنولوجيا «بلوتوث» المعتمدة على الموجات القصيرة. بعض البلدان لجأت إلى هذه الأساليب منها الصين، وكذلك كوريا الجنوبية بالذات التى استخدمت بكفاءة ملحوظة أسلوب تبادل الإشارات بين الهواتف المحمولة. هذه الأساليب تثير مسألة الخصوصية والحياة الخاصة للأفراد وحرياتهم لأن أجهزة الدولة فى البلدان المختلفة يمكن أن تحصل على هذه البيانات لتتحكم فى حياة الناس وتوجههم وتقيد من حرياتهم. أسلوب تبادل الإشارات باستخدام «بلوتوث» يعتبره المختصون أقل خطورة ولكنها ليست منعدمة. الباحثون ينعكفون فى فرنسا وألمانيا وبريطانيا على التوفيق بين مزايا أساليب التتبع، من جانب، واحترام الحياة الخاصة للأفراد وحرياتهم، من جانب آخر. حتى يؤتى البحث نتائجه المرجوة، صدرت قواعد فى البلدان الديمقراطية تترك للأفراد حرية قبول خضوعهم للتتبع أو رفضه وتحكم جمع البيانات واستخدامها. البيانات يجب أن تقتصر على تلك الضرورية لغرض جمعها وهى فى حالتنا مكافحة الوباء، وهى بيانات يمكن للفرد المعنى أن يطلع عليها عندما يشاء، وهى كذلك بيانات يجب تدميرها بمجرد تحقيق الغرض من جمعها. وفى البلدان الديمقراطية توجد هيئات لوضع مثل القواعد المذكورة ولمراقبة تنفيذها الفعلى والفعال مثل الهيئة الوطنية للمعلوماتية والحريات فى فرنسا.
***
أى الأنظمة أكثر كفاءة فى مواجهة هذا الوباء، السلطوية منها أو الديمقراطية؟ الرد يتوقف على ما كان يمكن أن يحققه كل نظام فى حدود الموارد المتاحة له قبل نشأة الوباء، وأثناء انتشاره. بعيدا عن المشاحنات السياسية التى دفعت الولايات المتحدة إلى اتهام الصين بكل كبيرة وصغيرة بشأن نشأة الوباء وانتشاره عالميا، فالمشاهد هو أن الصين استطاعت أن تتحكم فى الوباء وعلى الرغم من حجم السكان فيها، فالضحايا فيها لا يقارنون بأعدادهم فى إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا ولا بالطبع فى الولايات المتحدة. التساؤل ممكن عما إذا كان من شأن الفيروس أن ينتشر فى الصين وفى العالم كما فعل إن كانت الصين السلطوية قد أدركت مبكرا أنها بصدد وباء وأبلغت العالم به وقتها. الشك وارد فى نوايا الصين. ولكن فى المقابل، لم يساعد النظام الديمقراطى فى الولايات المتحدة على صياغة السياسات الفعالة سريعا وتنفيذها. التفسير الأرجح لذلك هو أن النظام الديمقراطى الأمريكى قد اتبع أساليب غير ديمقراطية تمثلت فى إنكار وجود الوباء، والتأخر فى رد الفعل وفى إنتاج البيانات وفى استخدامها لصنع السياسات، ناهيك عن عدم الاستعداد أصلا لمثل هذه الأزمة والتردد فى استخدام الأدوات القانونية المتاحة لتهيئة التجهيزات الضرورية عندما انتشر الوباء.
نجحت فيتنام السلطوية، وهى بلد نامى، وكوريا الجنوبية الديمقراطية المنتقلة إلى صفوف الدول المصنعة، فى التحكم فى الوباء بشكل يدعو للإعجاب. وكذلك نجحت ألمانيا وسويسرا المصنعتان الديمقراطيتان، والأرجنتين النامية الديمقراطية، بل وبعد أن كانت أكثر البلدان إصابة بالمرض، نجحت إيطاليا وفرنسا وإسبانيا الديمقراطية فى عكس اتجاه منحنى الإصابات وفى تخفيض أعداد المرضى الجدد وفى تخفيف الضغوط على أجهزة الصحة العامة فيها.
***
مرة ثالثة نطرح السؤال، أى الأنظمة إذن أكثر كفاءة، الديمقراطية أو السلطوية، فى مواجهة هذا الوباء وأمثاله؟ نلتمس جانبا من الرد فى اقتباس من أستاذ كل من الاقتصاد والفلسفة، الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد، «أمارتيا سن» يتحدث فيه عن الأنظمة السلطوية باعتبارها أنظمة مغلقة. يقول سن: «الحكومات فى الأنظمة السياسية المغلقة، التى لا توجد فيها وسائط اتصال حرة وأحزاب معارضة، تعانى من أجل الحصول على معلومات دقيقة فى التوقيت الضرورى وفى إيصال المعلومات العاجلة إلى الجمهور. يمكن أن تكون هذه الحكومات ضحايا لنفس دعاياتها لأن المؤسسات السياسية فى الأنظمة المعنية تمنح الحوافز للمسئولين المحليين حتى يتفادوا إبلاغ رؤسائهم المركزيين بالأنباء السيئة، ولينتظروا التعليمات هم قبل أن يتحركوا». ليس الغرض مطلقا إلقاء المسئولية على عاتق المسئولين على المستوى المحلى فى هذا البلد أو ذاك. النظام السياسى هو مثل شبكة من قنوات الاتصال تنتقل فيها المعلومات من أدنى إلى أعلى، وكذلك أفقيا، وتتخذ فيها قرارات على المستويات المختلفة للشبكة، ويصنع فيها القرار المركزى والأعلى بالتفاعل بين المستويات المختلفة، وهو قرار عندما ينزل إلى المستويات الأدنى يطبق فيها حسب خصائص كل منها ومواصفات مكوناتها. الشبكة مفتوحة طبيعيا على المجتمع فى النظام الديمقراطى ومنغلقة عنه فى النظام السلطوى المتأمل فى كلام «أمارتيا سن» يكتشف أنه يلقى بالمسئولية الحقيقية على الشبكة كلها وعلى من يشغلون المواقع المركزية والأعلى فيها، فهم الذين يمنحون الحوافز للمسئولين على المستوى المحلى لكى يبلغوهم بما يحلو لهم.
مواجهة الأوبئة والأزمات تحتاج إلى أنظمة سياسية مفتوحة على المجتمعات، تستمع إليها وتتعرف على احتياجاتها، وتمنح الحوافز لإنتاج البيانات الصحيحة ولانتقالها سريعا من أسفل إلى أعلى، وللمشاركة فى اتخاذ القرار وفى تطبيقه بكفاءة.
هذه خصائص للأنظمة الديمقراطية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved