جليد جغرافى وجنة إكاديمية
هدى زكريا
آخر تحديث:
الثلاثاء 16 يونيو 2009 - 5:54 م
بتوقيت القاهرة
اندفعت أسابق الظلمة الزاحفة على تلال قرية (ألفريد) لأصل إلى مبنى (هيريك) حيث مكتبة الجامعة، قبل أن يرخى الليل سدوله على الغابة التى لا تحظى إلا بإضاءة خافتة ككل المناطق القروية الفقيرة فى أمريكا. ترفض عينى أن تخون جمال النهر الخالد لتستمتع بجمال التلال المتعددة الألوان لما تحظى به من أشجار نادرة تجذب السائحين لزيارة المنطقة كل عام فى فترة الصيف القصيرة، حيث ترتدى كل شجرة لونا من ألوان الطيف، إلى أن يهبط الثلج فى زيارة طويلة وثقيلة على شمال ولاية نيويورك وشلالات نياجرا فتهبط الحرارة إلى 20 تحت الصفر.
بدأت فى رحلتى للمكتبة (أونس نفسى) بالغناء للمحروسة:
«بلا أمريكا..بلا أوروبا..مفيش أحسن من بلدى
دى المركب اللى بتجيب أحسن من اللى بتودى يا أسطى بشندى»
تمر إلى جوارى عربة نقل ضخمة وتنفتح نافذتها التى ترتفع أكثر من مترين لتطل منها باتريس ديدل صائحة: «هاى هدى..ألم تغادرى بيت الأشباح حتى الآن؟»، أبتسم قائلة: «ليس بعد..!» وأدعوها للمبيت عندى فى زياراتها الطارئة لألفريد فتضحك: «كلا يا عزيزتى لا أمتلك شجاعة الفراعنة الذين يخيفون الأشباح..!»
أعود للغناء بشجن: «يا غربة دوبينى..يا إما ترجعينى وتروحينى بلدى
أنام فى حضن بلدى وأقول لأهل بلدى سلامات..سلامات يا بلدى»
وبينما أقترب من المكتبة والظلام يزداد كثافة أسمع خلفى خطوات مسرعة ليهتف صوت مرح قائلا: «لماذا أسرعت خديجة بتصديق محمد عندما جاءها يبلغها بالرسالة يا هدى؟!».. وألتفت إلى الخلف بين الدهشة والذهول صائحة: «هل تقصد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وأم المؤمنين السيدة خديجة؟!» أجابنى كهل فارع الطول يرتدى قبعة راعى بقر: «أجل لأنى أحاول أن أفهم من أين جاءتها هذه الروح المساندة المؤمنة فلم تجادله كثيرا ولم تطلب منه أدلة ؟!»
قلت سأحاول الإجابة عن سؤالك المهم بعد أن أتشرف بمعرفتك بعد أن لاحظت أنك تعرفنى، رد ببساطة: «آه نسيت أن أعرفك بنفسى، أنا إيمرسون أستاذ الأديان المقارنة وأقوم بتدريس العلاقة بين الإسلام واليهودية، وأنت طبعا معروفة منذ ذلك المهرجان الذى أقامه رئيس الجامعة وقام خلاله بتقديمك لنا..فماذا لديك لتفسرى لى قصة إيمان خديجة بزوجها؟»، أجبته: «لعلك لا تعلم أن الأرستقراطية القرشية الشريفة المثقفة لم تمارس الوثنية ولم تنحنِ لصنم فى حياتها، أفادها فى تكوين رؤية دينية راقية وجود ورقة ابن نوفل ابن خالها المثقف المسيحى». وأخبرته بالمرجع الذى استنرت به وهو كتاب الشيخ خليل عبدالكريم (قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية)، والذى استطاع أن يفسر لماذا كانت أم المؤمنين أول من صدق بالرسالة؟. وبدأت أسهب فى شرح كيف ذهبت خديجة إلى ابن خالها لتستشيره فيما سيواجهه الرسول من متاعب وأذى من كفار قريش، فأجابها مؤكدا نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم): «والله ليكذبنّه ويعذبنّه ويخرجنّه منها(أى مكة)»... فعادت للرسول ينتابها قلق الزوجة المحبة لتخبره بما تنبأ به ورقة ابن نوفل له من ألم، فلم ينشغل (صلى الله عليه وسلم) بأمر التكذيب والتعذيب المتوقعين بقدر ما أحزنه أنه سيضطر إلى الهجرة من بلده الحبيب، فقال: «أو مخرجىّ هم منها؟!» فإذا بالآيات الكريمة تطمئنه بالعودة المظفرة: «إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد»
كنت قد وصلت إلى مشارف المكتبة، وأنا ألاحظ إنصات ايمرسون إلى حد التوقف عن التنفس..فقلت: «أنا مضطرة للذهاب إلى المكتبة»، فأفاق قائلا: «أوه..يبدو أننى أحتاج إلى التعرف على معلومات أكثر، فهل يمكن أن أستضيفك فى محاضراتى لتحدثى طلابى وتجيبى عن أسئلتهم؟.. أنا أقابلهم فى هذا المبنى التاريخى (كانكاديا) الواقع على الشلال الذى يحمل نفس الاسم»، قلت له: «طبعا يسعدنى ذلك..!»
وتذكرت أننى درست فى علم الاجتماع الريفى أن القرى تمارس علاقات الوجه للوجه لقلة عدد سكانها ولطبيعة التضامن الآلى بين أفرادها، لكنها تكون طاردة للطموحين من سكانها الذين يسعون للصعود المهنى والاجتماعى، فيخرجون منها إلى المدن الواسعة ويبقى فى قلوبهم حنين للأمان ولعلاقة الوجه للوجه. لكن ألفريد التى تنتمى إلى الريف الأمريكى بكل ملامحه القاسية قد جمعت بين سمات القرية التى لا يمر بك أحد دون أن يلقى عليك السلام ويبادلك الحديث الودى، وبين سمات المجتمع الحضرى الذى يمكن أن تطمح فيه للوصول إلى أعلى درجات العلم.
عندما قفزت سلالم المكتبة استدرت إلى تلال القرية الصامتة إلا من صيحات بعض الطلاب المندفعين إلى المحاضرات، وقلت: «آه يا ألفريد الموحشة أى جمال ذلك الذى يخفيه الجليد الاجتماعى الذى يغطى تلالك؟! ها أنت تحققين لى حلما كنت أظنه غير قابل للتحقق فى دنيانا هذه»... فلطالما تمنيت أن أعايش مجتمعا إكاديميا حقيقيا لا ينشغل فيه الناس إلا بتنمية معارفهم وتطوير مناهجهم الفكرية، كما كانت جامعاتنا فى زمن طه حسين ومصطفى مشرفة وزكى نجيب محمود وحكمت أبو زيد وحتى محمد الجوهرى وجابر عصفور وأحمد زايد.
لكن زمانى الضنين يدفعنى لأعيش أياما أرى فيها المفكر الإسلامى البارز نصر حامد أبو زيد يخرج من المحروسة حاملا كتبه وأفكاره.
وأتساءل: «متى وكيف نرفض انخفاض السقف الثقافى الذى يقصر عن أن يرتفع ليطول قامات ارتطمت به وهى تسعى لرفع هامة الأمة».