قوس الثورات.. هل يكتمل بالصين؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 16 يونيو 2011 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

  العرب والأوروبيون منشغلون هذه الأيام بتطورات الأمور فى بلادهم على حساب الاهتمام بتطورات السياسة الدولية، وبخاصة تلك التى تتعلق بشرق آسيا. وربما كان لنا وللأوروبيين عذر، فالشرق الأوسط على حافة بركان يغلى بصوت عال ويقذف حمما متفاوتة السخونة والتدفق والتأثير، ولكنها كافية لشد انتباه شعوب المنطقة وحكوماتها وعزلها عن تطورات مهمة تحدث فى أقاليم أخرى. وأوروبا تغلى أيضا وإنما بمظاهر مختلفة، فلا بركان منتفضا هناك ولا حمم تتساقط، بل حلم كاد يتحقق فإذا به يتشقق تحت أقدام الأوروبيين، هناك تقف الوحدة الأوروبية، مشروعا وإنجازات، على حافة خيبة أمل كبيرة.

دولة بعد أخرى فى الشرق الأوسط تقترب بقوة مغناطيسية هائلة من الثورة الشاملة لتبتعد بقوة طاردة ايضا هائلة نحو الاضطراب والفوضى، لا أمل باد فى الأفق يشير إلى قرب الوصول إلى استقرار «ثورى» تننقل به شعوب المنطقة إلى العصر الحديث.. ودولة بعد دولة فى أوروبا تقترب من عنق زجاجة يمنع تدفق عائد سنوات النمو والوحدة والاقتصاد، ففى كل مكان عجز موازنة وتفاقم دين حكومى متضخم وبطالة متفشية وسياسة تقشف خانقة.

●●●


بعيدا عن هذه الأجواء والأمزجة الانعزالية، عقدت فى سنغافورة، الدولة المدينة، جولة جديدة من حوار «شانجرى لا» الذى يضم خبراء ومسئولين من العسكريين والمدنيين المتخصصين فى شئون الصراعات وسباقات القوة. لم يكن خافيا أن المشاركين، جميعهم بدون استثناء، ذهبوا إلى سنغافورة ليتحاوروا حول قضية الزيادة المطردة فى قوة الصين العسكرية وفى نفوذها السياسى فى الإقليم.

كان ملفتا للنظر أن تختار الولايات المتحدة هذه المناسبة ليصدر باسمها ما يشير إلى القلق الأمريكى بسبب ممارسة الصين «سياسات استعمارية» فى أفريقيا. لفت النظر كونه يصدر عن دولة مارست على مدى قرون السياسات نفسها فى قارات مختلفة، ولأنه جاء فى وقت تعددت فيه مظاهر الإعراب عن قلق دول فى جنوب آسيا بسبب سياسات أخرى تمارسها الصين.

يتهمون الصين بأنها تشترى أراضى وجبالا وأقاليم شاسعة فى أفريقيا ملكا خاصا تباشر فيه عمليات استخراج المعادن وتقيم طرق المواصلات داخلها وإليها وتستخدم فى الغالب عمالا من الصين وتغرق الإقليم أو الدولة مانحة الامتياز بمنتجات رخيصة الثمن. ويشككون فى قيمة العائد للدولة الأفريقية، فالطبقات الحاكمة هى التى تحصل على ثمن الأرض ولا تحصل الدولة على ضرائب أو منافع، بل على العكس تصاب الصناعة المحلية بالضرر الشديد نتيجة سياسات الإغراق بالسلع الصينية الرخيصة. وفى بورما، ميانمار، يحدث تطور مماثل لا يعرف العالم الخارجى عنه سوى القليل، بحكم سياسات الانغلاق التى تمارسها حكومة العسكريين فى رانجون، إذ تقوم الصين ببناء سد للمياه يقال إنه سيكون الثالث من نوعه فى العالم، وينتهى العمل منه فى عام 2019، وبنص الاتفاق بين الحكومتين على أن تخصص كل الطاقة الكهربائية التى سيولدها السد لاستخدامات الصين عبر الحدود وتفرغ الأراضى المحيطة بالسد من سكانها.

●●●


على امتداد أسبوع أو أكثر، شنت أجهزة الإعلام فى الغرب حملة لتذكير العالم بأحداث 4 يونيو عام 1989 التى جرت فى ميدان السلام الأبدى «تيينامين»، فيما عرف وقتها بيوم الذروة فى مظاهرات الشباب المطالبين بالحرية. كان التذكير بالمناسبة فرصة استغلتها قوى ومنظمات وأجهزة إعلام أمريكية للإشادة بالدور الذى لعبته التكنولوجيا الإلكترونية فى إشعال ثورة الربيع العربى، والربط بين هذه الثورة والثورة المقبلة فى الصين.

كانت الإشارات واضحة إلى أن جهات فى الولايات المتحدة تخطط لتصعيد تدخلها فى الشئون الداخلية للدول الأخرى، وبخاصة الصين، عن طريق توفير المال والجهود اللازمة لتطوير استخدامات شبكة الإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعى، بعد أن أثبتت نجاحا منقطع النظير فى الثورات العربية.

قرأنا أن مؤتمر قمة مجموعة الثمانى ناقش موضوع حرية الإنترنت، وقرأنا عن اختراع «شنطة الإنترنت»، وهى الحقيبة التى يمكن أن يحملها مسافر عادى ويدخل بها إلى دولة تعانى استبداد حكومة تقيد حرية أنشطة الإنترنت، فيحل الإنترنت المحمول محل الشبكة المحلية فى حال أبطلت الحكمة عمل الشبكات المركزية.

●●●


كان 2010 عاما غير عادى فى مسيرة علاقات القوة الدولية فى منطقة جنوب شرق آسيا. إذ تعددت النزاعات التى كانت الصين طرفا فيها وأغلبها يتعلق بقضايا حقوق ملكية أو انتفاع بأراضٍ أو مياه متنازع عليها تاريخيا، وتعددت الأطراف الأخرى فكانت هناك فيتنام والفيليبون واليابان والهند. بمعنى آخر لم تترك الصين دولة من دول الجوار لم تدخل معها فى نزاع حتى إنها اختلفت مع كوريا الجنوبية حول مواقف تتعلق بنزاعها مع كوريا الشمالية.

الاستثناءان الوحيدان روسيا وكوريا الشمالية. إلا أنه حتى فى حالة روسيا بدا لبعض الوقت أن الصين ليست مرتاحة إلى التصعيد المتتالى فى اهتمام موسكو بتعزيز قواتها البحرية فى المحيط الهادى، وبدا أيضا أن الصين غير راضية عن بعض سياسات كوريا الشمالية خشية أن تتسبب إحداها فى إشعال أزمة دولية فى وقت لا يناسب مصالح الصين وظروفها.

من جهة أخرى عادت تظهر خلال العام الفائت مؤشرات عن توتر جديد فى العلاقات بين الأقليات القاطنة فى أقاليم تقع على حدود الصين والأغلبية المنتمية إلى «الهان» المكون الأساسى فى الأمة الصينية.. تشير التقارير وأغلبها غربى المصدر إلى أن المنغوليين القاطنين فى أقليم منغوليا الداخلية فى شمال الصين تمردوا على الحكومة المحلية لسبب لا يختلف عن السبب الذى دفع السكان المنحدرين من شعب الإيغور فى مقاطعة سينكيانج إلى التمرد، وهو أن الوظائف العامة تمنح لمواطنين هاجروا من أقاليم أخرى فى الصين وسكنوا منغوليا أو شيكيانج بهدف تغيير طبيعة الخريطة السكانية.

هكذا تكون منغوليا الداخلية قد انضمت إلى سينكيانج والتبت ليكتمل قوس الأقليات المتمردة على حكم الأغلبية الصينية، وهو القوس الذى يسبب لحكومة بكين حرجا لا يقل عن الحرج الذى تسبب فيه أحداث ميدان السلام الأبدى قبل أكثر من عشر ين عاما.

●●●


عشنا نقرأ ونسمع عن الصين قصصا مغلفة بالغموض الشديد. هذا الغموض كان عبر القرون الأخيرة شبيها بالغموض الذى تلتف به القصص التى يتناقلها الأوروبيون عن الشرق الأوسط والمسلمين، لم يتغير كثيرا هذا الميل الغربى رغم ثورة الاتصالات والمعلومات واندماج الصين والمسلمين فى «نظام العولمة». وأعتقد أن أجهزة صنع السياسة فى العواصم الغربية تعرف الآن كيف تستغل هذا الميل لدى الرأى العام الغربى لتبالغ فى تصوير سياسات الصين الخارجية وأوضاعها الداخلية تماما كما فعلت وتفعل مع القضايا العربية والإسلامية.

تناقلنا عن شو إين لاى عبارة جاء فيها أن الوقت مازال مبكرا للحكم على الثورة الفرنسية. صارت حكمة انضمت إلى سجل موغل فى القدم عن الحكمة الصينية عبر الألفيات. فاجأنا قبل أيام أحد المستشارين الذين رافقوا الرئيس نيكسون فى رحلته الشهيرة إلى الصين حين قال إن العبارة الشهيرة صدرت أثناء حديث كان يدور عن ثورة باريس عام 1968 وليس عن ثورة الباستيل فى 1789.

سئل كسينجر عن الواقعة فاعتذر عن عدم الإجابة بحجة أنه لا يتذكر، وربما أراد ألا يتذكر لأنه هو نفسه كان مساهما فى صنع سحابات الغموض ونسج هالات الأسرار حول القيادة الصينية، وهى السحابات والهلات التى كانت تخدم أهدافه وخططه وأسلوبه فى تضخيم إنجازاته التفاوضية وسجله فى الشرق الأوسط حافل بها.

●●●


يقول المسئولون الصينيون إن هناك مبالغة فى تقدير تنامى قوة الصين ونفوذها، أو توتر العلاقات مع واشنطن. ولكن ما لا يقوله هؤلاء المسئولون هو أن كثيرا من تقديرات مراكز بحوثهم الاستراتيجية تشير إلى أن الوقت يعمل لصالح تنامى قوة الصين ومكانتها فى الاقليم. فاليابان العدو التاريخى الأخطر للصين مستمرة فى الانحدار. والأمل ضئيل فى أن تفلح دول جنوب شرق آسيا فى إقامة حلف عسكرى مناهض للصين، ولا خوف من استراليا، التى أصبحت تعتمد على الصين فى تصريف معظم صادراتها ولن تتمكن، حتى إن شاءت، إعادة هيكلة اقتصادها لتقلل من الاعتماد على الصين.

أما الهند فمازالت، فى نظر هذه المراكز البحثية، دولة متخلفة فى التكنولوجيا العسكرية لأسباب يعلمها الجميع وأهمها عدم كفاءة نظم التعبئة والتوجيه والتعليم على عكس الحال فى الصين، وأخيرا، ولعله الأهم من وجهة نظر الصين، يتضح يوما بعد يوم أن الغرب، وخاصة الجانب الأوروبى فى حلف الأطلسى، لم يعد قادرا على الإنفاق على برامج تسلح باهظة التكلفة، بدليل أن كل موازنات القوة الدفاعية يجرى تقليصها، بينما تواصل ميزانية الدفاع الصينية ارتفاعها.

يبقى فى حكم المؤكد أن نفوذ الصين يقوى واقتصادها ينمو وقدرتها على مواجهة التحديات تتضاعف، يبقى مؤكدا أيضا أن الأمريكيين لا يخفون أنهم ينتظرون بفارغ الصبر أن تتفجر فى الصين ثورة يستأنف بها الشبان ما بدأوه فى عام 1989 عساهم يفلحون فى اختراقها والتأثير فى توجهاتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved