إلى اليابان!

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 16 يونيو 2018 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

بعد ساعات قليلة أستقل طائرتى إلى اليابان، هذه هى المرة الأولى التى سأعبر فيها المحيط الهادئ، سافرت على كل الطرق الملاحية تقريبا ما عدا هذا الطريق. اليابان بلد له معزة خاصة فى قلبى، عشت فيها ثمانى سنوات وزرتها أكثر من ١٢ مرة، كانت زيارتى الأولى فى عام ٢٠٠٠ ووقتها كنت ضمن وفد يمثل مصر عن طريق وزارة الشباب وفيها مكثت شهرا وقد كانت الزيارة الأولى لى لبلد أجنبى، كانت الزيارة ترفيهية وثقافية انبهرت فيها بثقافة وحضارة مختلفة ومبهرة. ثم كانت الزيارة الثانية فى العام التالى ٢٠٠١ بدعوة من الخارجية اليابانية للمشاركة فى مؤتمر شبابى آخر بإشراف الأمم المتحدة، وفيها تأكدت من حبى العميق لهذا البلد المميز والملهم وقررت وقتها أننى سأعيش هناك!

فى العام التالى قررت تحقيق الحلم وسافرت فى منحة تعليمية بدعم مرة أخرى من الخارجية اليابانية لدراسة اللغة ثم دراسة الماجستير ثم الدكتوراه لأمكث ثمانى سنوات متتالية فى اليابان هى من أجمل سنوات العمر قبل أن أعود لمصر فى ٢٠١١ بعد ثورة يناير.

***

هذه المرة الزيارة قصيرة والهدف مختلف، أقوم هذه المرة باصطحاب عدد من طلاب جامعة دنفر فى مرحلتى البكالوريوس والماجستير لدراسة الثقافة والسياسة فى اليابان. ستمتد الزيارة لمدة أسبوعين تقريبا ونهدف لزيارة العاصمة طوكيو ومدينة هيروشيما التاريخية. فى طوكيو نستهدف زيارة عدد من المؤسسات الحكومية، حيث من المنتظر زيارة الخارجية اليابانية وكذلك وزارة الداخلية، بالإضافة لعدد آخر من المؤسسات الحكومية المسئولة عن تدريب البيروقراط فى اليابان، كذلك من المنتظر أن نزور البرلمان اليابانى بالإضافة إلى عدد آخر من المتاحف والمعابد والأماكن التاريخية الأخرى. نتوجه بعدها إلى مدينة هيروشيما لزيارة بعض المواقع التى تؤرخ للقنبلة النووية الأمريكية والدمار الذى تركته على المدينة قبل أن نتوجه إلى جامعة هيروشيما لمقابلة بعض الأكاديميين هناك والحديث عن أثر الحرب على الثقافة الاجتماعية والسياسية للمدينة ولليابان بأكملها.

التاريخ بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية حاضر بشدة فى ذهن المواطن هنا وهناك، اليابان أخرجت الولايات المتحدة من حيادها فى الحرب العالمية الثانية بعد أن ضربت لها بيريل هاربور، والولايات المتحدة غيرت تاريخ اليابان بأكمله حينما ضربت طوكيو بالطائرات وسوتها بالأرض (الحادثة الأقل شهرة) قبل أن تقوم بعد شهور معدودة بضرب هيروشيما ونجازاكى بالقنابل النووية لتستسلم اليابان ويتغير تاريخها للأبد!

تنازل الإمبراطور عن سلطته وتحول إلى مجرد رمز للدولة دون أى سلطات تنفيذية، تعرض اليابانيون للصدمة بعد أن شاهدوا بأعينهم الإمبراطور (نصف الإله) يتحول إلى مجرد رجل منحنى الظهر يطأطئ رأسه بينما يتقبل الأمر الواقع والذى تمثل ببساطة فى احتلال الولايات المتحدة لليابان الأمر الذى أنهى نصف قرن من الطموحات الإقليمية اليابانية العظمى، حيث انتصرت اليابان على روسيا والصين واحتلت شبه الجزيرة الكورية قبل أن تجتاح جنوب شرق آسيا وتطمح فى المزيد حتى جاءت الهزيمة الساحقة.

لم تكتفِ الولايات المتحدة بالاحتلال، ولكنها أعادت رسم النظام السياسى اليابانى والدفاعى وعمدت إلى تغيير النظام التعليمى وتغيير الثقافة اليابانية ومحاولة مقرطتها. رغم هذا التاريخ المؤلم، فإن العلاقات السياسية بين البلدين على ما يرام دائما رغم بعض الاعتراضات من هنا أو هناك، الشراكة بينهما استراتيجية ومستمرة بقوة، كذلك فالعلاقات الشعبية بين البلدين فى أفضل أحوالها دائما ورغم مرارة الهزيمة والدمار إلا أننى لم ألمس كرها عاما بين الشعبين، لكنى أيضا أستطيع أن ألتمس بعض الحساسيات اليابانية وربما شىء من عدم الثقة فى التعامل مع الأمريكان!

***

لم أتصور نفسى يوما أن أكون حلقة فى هذه العلاقة الشعبية، طلابى الأمريكان معظمهم من البيض مبهورين بالثقافة اليابانية ومعظمهم يزور اليابان للمرة الأولى وبعضهم يخرج بعيدا عن حدود أمريكا الشمالية للمرة الأولى ويعتمدون على هذا «الكورس» لفهم اليابان والعالم الخارجى وهى مسئولية كبيرة حتى لو تأثيرها شديد المحدودية فى بلد يندفع بقوة نحو مواقف متشددة من العالم الخارجى فى ظل شعبوية ترامب.

إحدى طالباتى من الجيل الثالث لليابانيين الأمريكان، هاجر جدها فى خمسينيات القرن الماضى من فوكوكا (جنوب اليابان) إلى لوس أنجلوس بحثا عن ظروف عيش أفضل فى وقت كانت تمر فيه اليابان بظروف اقتصادية غير مستقرة، والدها من مواليد لوس أنجلوس، تزوج من والدتها (من أصول يابانية أيضا) فى نهاية الثمانينيات، وبعكس معظم الأسر اليابانية المهاجرة لم يكونوا حريصين على تعليم الأولاد اليابانية، طالبتى من مواليد نهاية التسعينيات وهى لا تتحدث اليابانية ولم تقم بزيارة اليابان ولا مرة، قالت لى فى اللقاء التحضيرى الأسبوع الماضى إنها متشوقة للغاية لزيارة بلد الأجداد ورغم أن صلاتها بعائلتها اليابانية ضعيفة ورغم أنها لن تستطيع مقابلة أى منهم لأن برنامج الزيارة بعيد عن أماكن تواجدهم، ولكن شعورى بمسئولية تقديم بلد الجدود إلى مهاجرة من الجيل الثالث يشعرنى بشعور مختلط من التوتر والسعادة. توتر لأنها مسئولية كبيرة، ولأنى أعلم جيدا شعورها المتوتر بالضرورة، وسعادة لأننى ممتن أننى سأكون سببا فى هذه الصلة بين مهاجرى الجيل الثالث وبين بلدهم الأم الذى أحبه بالضرورة كثيرا!

***

حينما اقترحت هذا الكورس الصيفى على إدارة الكلية هنا لم أتخيل أن أحصل على الموافقات بهذه السرعة، كان حماس العميدة ونائبها موضع دهشتى، كنت أخطط لهذه الزيارة لتكون فى إجازة أعياد الميلاد من هذا العام، ولكنهما اقترحا تبكيرها للصيف بحيث يكون الطلبة متاحين بشكل أكبر، تكلفة الكورس مرتفعة للغاية حاولت التقديم على دعم مادى للطلبة من خارج الجامعة لكن بكل أسف فشلت، ورغم ذلك قام عدد كبير من الطلبة بالتقديم وكنت محظوظا لأن الجامعة قررت توجيه بعض الدعم للطلاب لتغطية ما يقرب من ٧٠٪ من تذكرة الطيران مرتفعة التكاليف فى الموسم الصيفى، لم أكن واثقا من قدرتى على توفير مقابلات رسمية لطلبتى نظرا لضيق الوقت، لكن كان رأى إدارة الجامعة هنا أنه حتى لو كانت الزيارة هى لمجموعة من المتاحف والمعابد فهذا يكفى لتعليم الطلبة تجربة جديدة.

قررت فى الثوانى الأخيرة مخاطبة أستاذى اليابانى أكيرا ناكامورا الذى أشرف على رسالة الماجستير الخاصة بى قبل أكثر من ١٢ عاما، لمعرفة إن كان لديه الوقت لمقابلة طلابى، كنت أتوقع ردا سلبيا لأننى كان يجب مخاطبته قبلها بوقت كاف كما تقتضى التقاليد اليابانية والاحترافية عموما، إلا أن رده كان مفاجئا بحيث إنه لم يكتفِ فقط بالموافقة على مقابلة الطلبة، بل إنه قرر أيضا أن يقوم بنفسه بتنظيم عدد آخر من اللقاءات مع أطراف حكومية متعددة حيث قام وحده بمساعدتى فى تنظيم ٤ لقاءات، ثم قرر أيضا أن يقوم بتنظيم حفلة لاستقبالى دعا إليها كل أساتذتى السابقين بالإضافة إلى زملاء الدراسة القدماء! شعور جميل أن يقوم أستاذك بكل هذا فقط لأنه سعيد بتقدمك العلمى والبحثى ولا يمكن وصف شعورى بالامتنان للأستاذ ناكامورا على هذا الجهد وعلى هذه الحفاوة فى التعامل معى.

قال لى صديق «الجيم» الأمريكى الذى يكبرنى بربع قرن وسبق له وعاش فى مصر فى تسعينيات القرن الماضى «ياله من أمر مثير للاهتمام أن يقوم مصرى بقيادة وفد طلابى أمريكى إلى اليابان»، الحقيقة قبل كلمته هذه لم أكن أفكر فى الأمر بهذا الشكل، لكنى الآن بالفعل أفكر فيها مليا، الدول الثلاث (مصر واليابان وأمريكا) بالترتيب، أصبحت تشكل هويتى رغم اختلاف الثقافات والحضارات والتقدم الاقتصادى والانفتاح السياسى فيما بينها، يكون الأمر مربكا لى فى بعض الأحيان، ولكنها بكل تأكيد تجربة حياتية ثرية حتى الآن تجعلنى ممتنا للماضى والحاضر وغير عابئ كثيرا بالمستقبل رغم صعوبات وتحديات هذه الحياة.

أتشوق لرؤية اليابان بعد كل هذه السنوات، ففيها كانت أجمل سنين العمر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved