بعض التعديلات التاريخية

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 16 يوليه 2011 - 10:30 ص بتوقيت القاهرة

 نشرت وكالة الأنباء الفرنسية خبرا فى أوائل شهر يوليو الجارى حول إجراء فرنسا لتعديل فى كتب التاريخ المعاصر المقررة على طلبة الصف الثانى الثانوى بشأن تقسيم فلسطين وذكرى النكبة، بناء على اعتراض ممثلى الجمعيات والمؤسسات اليهودية، الذين اتهموا واضعى المنهج بعدم الموضوعية وبتر الحقائق! وفى الأسبوع نفسه انطلقت مظاهرات صاخبة فى شوارع بيروت «لتوحيد كتابة تاريخ لبنان»، وكأنها دعوة عجيبة لجمع المؤرخين فى لجنة ــ بإشراف وزارة التربية والتعليم أو بدون إشرافها ــ لكتابة تاريخ واحد للبلاد بكل طوائفها وفرضه فى المدارس والجامعات!

●●●

استحضر فى ذهنى هذا التناول الغريب للتاريخ كتابا بديعا ودسما، رغم صغر حجمه، بعنوان «علام يطلق اسم فلسطين؟» للكاتب والصحفى الفرنسى آلان جريش، الذى ستصدر ترجمته العربية قريبا. الكاتب الذى نشأ فى مصر حتى سن الرابعة عشرة ورحل عنها فى العام 1962 يروى ــ فى المقدمة ــ بعيون الصبى الذى عاش بين ثقافتين كيف يمكننا رؤية الأوجه المتعددة للتاريخ دون غضاضة. فقد فرض الظرف السياسى حاله على جريش، ووجد نفسه يدرس الوقائع التاريخية من وجهتى النظر الفرنسية والمصرية، عندما فرضت ثورة يوليو على طلبة مدرسة الليسيه فرنسيه (التى كانت تابعة لباريس حتى العدوان الثلاثى فى 1956) دراسة المناهج المصرية بالنسبة لبعض المواد دون غيرها، ومنها بالطبع التاريخ. رأى مثلا كيف تتحدث المناهج الفرنسية عن دخول جيوش بونابرت إلى مصر بزهو، وتحيى إنجاز العلماء الذين وضعوا كتاب «وصف مصر» فى عشرة أجزاء.

من ناحية أخرى رأى ما تعدده الكتب المصرية فى مناقب الاحتلال الفرنسى عام 1798 وما اقترفه الجنود من امتهان للثقافة والدين، وكيف قاومهم المصريون. وتكرر الشىء نفسه بالنسبة لحفر قناة السويس وشخصية دليسبس، فقد كانت المناهج الفرنسية تركز على الافتتاح الفخم للقناة بحضور الإمبراطورة أوجينى، فى حين تندد المناهج المصرية بموت عشرات الآلاف من العمال أثناء الحفر والاستدانة، التى أضعفت سيادة البلاد. كذلك درس آلان جريش حادثة دنشواى فى كتب التاريخ المصرية والحركة الوطنية التى استتبعتها لمقاومة الاحتلال البريطانى، ودرس ما تذكره الكتب الفرنسية عن اكتشاف أمريكا دون اسهاب حول مصير الهنود الحمر هناك.. ترسب شىء فى اللاوعى جعله دون قصد واضح يفضل الهنود الحمر عن رعاة البقر عند مشاهدته لأفلام «الوسترن» أو الغرب الأمريكى.

●●●

فهم مبكرا أن رواية الحدث الواحد تتعدد وتختلف، وبناء عليه يتم اتخاذ مواقف ــ بعضها سياسى ــ تتحكم فى مصير الشعوب وتاريخ الأمم، فيحكم على البعض مثلا أن يظلوا جالسين إلى الأبد فى «ردهة انتظار التاريخ»، ربما من أجل فرض واقع قد لا يأتى أبدا.. هذا ما يحاول الكاتب التركيز عليه فى مجمل كتابه الذى يفصل تاريخ المسألة الفلسطينية تفصيلا، كنموذج حى وربما أخير يجسد الفكر الاستعمارى الغربى.
يقرأ الكاتب ويقرأ ويقرأ..

ممعنا فى تحولات الحركة الصهيونية وكذا الخطاب المزدوج وأحيانا الملتبس لبعض الأفراد أو الجهات أو الهيئات، تتغير اللهجة وفقا للظروف، وأحيانا نجد أشد الناس عداء للسامية هم من ساهموا فى ترسيخ دعائم دولة إسرائيل على حساب النازحين الفلسطينيين. رحلة ذكية عبر التاريخ والقارات فى إعادة قراءة لما حدث من منظور غير أحادى وبدرجة عالية من التفهم تعلمها الكاتب على يد أمه اليهودية الديانة التى عاشت واندمجت فى المجتمع المصرى دون أدنى إحساس بالعنصرية أو التفرقة، على نحو لم يكن متوافرا فى أوروبا وقتها. فقد كان هناك فى مصرانفتاح على الآخر ورؤية أوسع للأمور نفتقدها الآن إلى حد كبير، وإلا لما ظهر من يهاجم هذا الفريق أو ذاك لمجرد تبنيه وجهة نظر مختلفة، فنقسم الناس إلى «حزب كنبة» أو «ثوار حقيقيين»، إلى «قلة مندسة» أو «فلول»، «مسلمين» و«مسيحيين»، يعلوهم جميعا أصبع اللواء الفنجرى مهددا منددا. لكل قراءته الخاصة لتاريخ لا يزال فى طور الكتابة، يستخدمها كأداة فى الصراع السياسى والثقافى، مع الوضع فى الاعتبار أن محاولة قمع الآخر فى مثل هذه اللحظات الثورية يأتى بأثر عكسى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved