نحو آلية تلقائية لتسعير الوقود.. المخاطر والضوابط

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 16 يوليه 2018 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

منذ أيام صدر تقرير المراجعة لفريق صندوق النقد الدولى التالى للمباحثات الدورية مع مسئولى الحكومة المصرية والمنتهية فى 17 مايو 2018. التقرير تطرق إلى تطورات الوضع الاقتصادى والسياسات الاقتصادية فى مصر فى ظل التدابير والترتيبات التى أقرها الصندوق، ليمنح مصر تسهيلات التمويل الممتد البالغ قيمته الإجمالية 12 مليار دولار، وهى تسهيلات استثنائية فى قيمتها، تمنح فقط للدول التى تعانى من خلل هيكلى فى ميزان المدفوعات. فى ثنايا التقرير والبيان الصحفى لفريق الصندوق إشادة بالأوضاع الاقتصادية فى مصر للعام الحالى، وتحسن مؤشرات البطالة والتضخم، بالإضافة إلى تسارع معدل النمو الاقتصادى، واستقرار نسبة العجز فى ميزان التجارة إلى الناتج المحلى الإجمالى إلى ما دون 3% مع تراجع العجز المتوقع فى الموازنة العامة للدولة بشكل ملحوظ بحلول عام 2023.
وكان معدل التضخم قد ارتفع إلى مستويات قياسية ليقترب من 33% بحسب البيانات الرسمية، مع بدء تطبيق البرنامج المتفق عليه مع صندوق النقد فى أواخر عام 2016، والذى تضمن تعويم الجنيه، وإصلاح التشوهات فى أسعار الوقود، وزيادة الحصيلة الضريبية مع رفع الضرائب على الاستهلاك.. لكن معدلات التضخم أخذت فى التراجع تدريجيا متأثرة بالقطع بتغير أساس المقارنة، حتى بلغت 11.4% فى مايو الماضى، قبل الصعود مجددا إلى 14.4% فى يونيو الماضى مع جولة جديدة من رفع أسعار الوقود.
يتفاءل فريق الصندوق باكتشافات الغاز الطبيعى، ويرجح نجاح أهداف الشمول المالى وتحقيق الفائض الأولى فى الموازنة العامة. لكنه مع ذلك يحذر من مخاطر تتصل بأعباء السياسات الاقتصادية وتداعياتها المجتمعية، وكذلك المخاطر الخارجية الناجمة عن سياسات لا دخل للحكومة المصرية بها ولا طاقة لها على احتوائها، ومنها سياسات الانكفاء حول الذات، والاتجاه نحو الانغلاق والحروب التجارية التى تعطى حافزا للتدفقات الأجنبية كى تعود أدراجها إلى مواطنها، مما يهدد بخروج الاستثمارات الأجنبية، علما بأن مرونة سعر الصرف فى مصر، وتحسن المناخ الاقتصادى نسبيا توازنان من تلك الضغوط.
إلا أن أبرز ما استوقفنى فى التقرير الذى يتضمن طلبا بإمهال الحكومة مهلة إضافية لتقييم الأداء الاقتصادى، الناتج عن التدابير والترتيبات المتخذة، هو تشجيع فريق الصندوق للحكومة المصرية على اتخاذ خطوات إيجابية نحو تطبيق آلية تلقائية لتسعير الوقود، وهى ما أشاروا إليها باعتبارها آلية تم دراستها وبحثها بالفعل، والتأكد من تخفيفها من الضغوط على الموازنة العامة وتقليل أثر تقلبات أسعار الوقود عالميا.
***
عدت إلى ورقة سياسات أصدرها قطاع العلاقات المالية بصندوق النقد الدولى فى ديسمبر 2012 بعنوان: «آليات تسعير الوقود التلقائية مع تسليس الأسعار.. التصميم، التطبيق، والآثار المالية» Automatic Fuel Pricing Mechanisms with Price Smoothing: Design، Implementation، and Fiscal Implications
الورقة تدور حول الضغوط الكبيرة التى تواجه الاقتصادات النامية والناشئة بسبب تقلبات أسعار الوقود، وتقترح آلية تسعير تلقائية لمنتجات الوقود فى تلك الدول (المستوردة لمنتجات النفط ومشتقاته) للحد من الآثار المالية السلبية للفروق السعرية التى تتحملها موازناتها العامة. الفكرة تقوم على عنصرين رئيسيين أولا: التمرير pass through بحيث يمرر أثر التغير فى الأسعار العالمية إلى السوق المحلية بصورة كاملة أو جزئية، وثانيا: التسليس smoothing بحيث لا تكون الأسعار المحلية لمنتجات الوقود شديدة التقلب، ورهنا بتغيرات الأسعار اللحظية أو حتى اليومية فى بورصات منتجات النفط ومشتقاته. التمرير يمكن أن يكون كليا أو جزئيا ويخضع ذلك لحسابات وتقديرات وأبعاد اقتصادية واجتماعية مختلفة. وللتسليس بديلان شهيران للتطبيق أحدهما: وضع حدود أو قيود سعرية Price bands والآخر: احتساب متوسط متحرك moving average كأن يبدأ السعر مثلا باحتساب متوسط متحرك لأسعار الاستيراد عن الأشهر الثلاثة الماضية، ثم تمضى سلسلة البيانات المحتسبة باستبعاد المشاهدة الأولى فى الأسعار وإضافة مشاهدة جديدة يوميا.. وهكذا تتم المحافظة على استقرار الأسعار وتجنب التقلبات السعرية العنيفة.
***
وبعيدا عن التفاصيل الفنية للمعادلات التى يمكن أن تتضمنها الحلول المقترحة، فإن أهم ما اشتملت عليه الورقة هو الضوابط التى يجب أن تتخذها الحكومة لدى البدء فى تنفيذ تلك الآلية، لتخفيف الآثار السلبية للتطبيق، وكذلك العناصر التى يجب توافرها فى التوقيت المناسب لذلك التطبيق.
من أهم ما أشارت إليه الورقة ومن واقع تجارب دولية فى دول مثل غانا والجابون وموزمبيق وإندونيسيا والأردن.. أن فرض الزيادات السعرية فى الوقود وما يليه من سعى نحو فرض آلية للتسعير التلقائى، يستلزم زيادة ملحوظة فى الإنفاق الحكومى، لا التقشف أو الانكماش.. مع زيادة الإنفاق على برامج الحماية الاجتماعية لامتصاص الآثار السلبية لارتفاع أسعار الوقود. كذلك يجب أن تستثنى منتجات الوقود التى تستهلكها الفئات الأكثر احتياجا (مثل السولار) من أثر التمرير قدر المستطاع، على خلاف منتجات الجازولين التى يمكن أن يحتمل مستهلكوها هذا الأثر. فى السياق ذاته هناك دائما مفاضلة بين الكفاءة والتوزيع عند فرض ضرائب على مبيعات الوقود. فاعتبارات الكفاءة تقتضى أن تتساوى أسعار الضريبة على مختلف منتجات الوقود، باعتبارها بدائل شبه تامة، أما اعتبارات عدالة توزيع الأعباء فتقتضى أن تتفاوت أسعار الضريبة على مختلف المنتجات بحسب حساسيتها المجتمعية.
الورقة أيضا لفتت إلى أهمية أن يؤجل تطبيق الآلية التلقائية فى تسعير الوقود لحين انخفاض معدلات التضخم، وتراجع الأسعار العالمية للوقود بصورة ملحوظة حتى لا يكون أثر تمرير الأسعار إلى الأسواق المحلية عنيفا.
عملية الانتقال إلى نظام تلقائى للتسعير عادة ما تبدأ عبر الخطوات التالية:
أولا: تحديد الهيكل السعرى أو المعادلة التى يتم من خلالها احتساب السعر التلقائى بانتظام.
ثانيا: تحديد المستهدف الضريبى من كل منتج من منتجات الوقود.
ثالثا: تحديد السعر الاسترشادى وأسلوب التسليس المطلوب، والفترة الزمنية المناسبة لاستقرار الأسعار.
رابعا: تحديد مسئوليات الأطراف المختلفة المعنية بتطبيق آلية التسعير التلقائى.
وهذا كله فى إطار من الشفافية الكاملة والإفصاح عن مختلف الخطوات وعن الدراسة الوافية لهيكل التكاليف لمختلف منتجات الوقود، وتلك التكاليف تشتمل على الأجور والنقل والتوزيع والدعاية.
الدراسات التى تصدرها مؤسسات التمويل الدولية لها العديد من المحددات، ولا تصح نتائجها إلا بصحة فروضها، وهى أحيانا فروض مثالية لا تتحقق فى أرض الواقع. تلك الدراسات عادة ما تتعرض لكثير من النقد خاصة فى الدول النامية والناشئة التى يشكو مواطنوها من الترتيبات الاقتصادية الشاقة التى تسفر عنها المفاوضات مع بعثات الصندوق.
آلية التسعير التلقائى لمنتجات الوقود إن حسن تطبيقها تحقق كفاءة فى استهلاك الطاقة، وتقلل الضغط على ميزان التجارة والموازنة العامة للدولة وكذلك تحول دون حدوث تقلبات حادة فى أسعار منتجات الطاقة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved