وللحب تجليات

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 16 يوليه 2019 - 11:00 م بتوقيت القاهرة

زرت إدنبرة مرات، ومن كل مرة خرجت بتجربة أكثر ثراء. زرتها أول مرة ولم أتجاوز منتصف العشرينيات من العمر. أحب هذا العمر ففيه الخيال خصب والتاريخ نصف حى والفضول شديد. أسكتلندا كانت تعنى فى ذهن شاب مثلى أشياء كثيرة. تعنى الإقليم الذى أخرج للعالم أعتى المستعمرين الغربيين وأقواهم مراسا وعشقا لبريطانيا العظمى. تعنى أيضا المياه الوفيرة دائما والأمطار الغزيرة بعض الوقت والسحب الرمادية معظم الوقت والخضرة ذات النكهة الخاصة طول الوقت.
خرجت من إدنبرة فى سيارة مع صديق تمتلك عائلته أراضى، يقول عنها إنه لم يعرف يوما حدودها. كان غرضه من رحلة ذلك الصباح أن نتجول فى بعض المدن الجبلية وبعض المدن النهرية فى طريقنا إلى القلعة التى يقيم فيها أهله. توقفنا مرتين، مرة لأمتع العينين والأنامل بمنظر ونعومة منتجات الصوف الأسكتلندى فى محال صغيرة وأنيقة، ومرة أخرى فى منطقة يلتقى عندها نهران. هناك ساد الظن لقرون عديدة أن وحشا هائل الحجم يصعد من وسط الماء. تروى رواية أنه كان يصعد ليخطف الفتيات، وتروى رواية أخرى أنه كان يصعد ليؤكد لملوك إنجلترا أنه هنا فى أنهار أسكتلندا جاهز دائما ليحميها من اعتداءاتهم المتكررة.
***
راح صديقى ليأتى بالسيارة التى تركناها على مدخل الشارع الرئيسى فى هذه القرية المبتلة ولكن المبهجة بألوان زهورها ونظافة شوارعها. فكرت أن أنتهز الفرصة وأدخل إلى مقهى صغير أدلل فيه نفسى السعيدة بهذه الرحلة بفنجان من القهوة المركزة. طلبت القهوة وفى الانتظار تجولت بِعَيْنَىَّ فى أرجاء المكان، فى اللوحات المعلقة والثريات القماشية البسيطة والموائد الصغيرة بمفارشها داكنة الحمرة. هناك فى الخلف رأيت بابا موصدا زجاجه يعلن عن وجود موائد أخرى فى حديقة خلفية للمقهى. استأذنت صانعة قهوتى فأذنت. مشيت إلى الباب وفتحته. دخلت إلى الحديقة الجميلة وشعرت على الفور بلسعة برد حلوة، أم كانت لسعة شىء آخر غير البرد. نظرت مرة أخرى فى جهة مصدر اللسعة. هناك كانت المفاجأة، تفاجأت بالموقف ولم أتفاجأ بما رأيت أو بمن رأيت.
***
عدت إلى أسكتلندا مرات عديدة وفى أوقات متباينة. كذلك لم تنقطع زياراتى لأصدقاء قريبين جدا فى دول عربية كانت شقيقة ولا تزال. أزور المغرب وتونس والخليج وبلاد المشرق التقى أصدقاء وأقرباء أعرف بعضهم منذ سنوات شبابنا. ألتقى أيضا معارف تعرفت عليهم قبل سنوات قليلة وتوثقت الصلات ببعضهم. دخلت بيوتا كثيرة فى مصر كما فى الدول التى زرتها عابرا أو أقمت فيها. وجدت فى كل بيت، أو فى معظم البيوت، حكايات تستحق أن تروى وحكاية واحدة لا تروى حتى وإن استحقت أن تروى. حاولت مرارا التغلب على عوائق «الحكى» بأن أتدخل فى الحكاية بإجراء تغيير فى بعض تفاصيلها. نجحت فى أحيان وفشلت فى أحيان كثيرة. فشلت فى كل مرة كنت متأثرا عاطفيا بالتفاصيل. أنا أيضا بشر. أنفعل بما ينفعل له غيرى من الناس. أحيانا أقع على «تفصيلة» لأكتشف بعد قليل أنها نواة الحكاية وجوهرها فإن تغيرت لم تعد هناك حكاية لتروى. حينذاك يغالبنى الإشفاق على أبطالها أو على مسرحها أو على روعة المشاهد والأفعال والمشاعر، يغالبنى حتى يغلبنى فأمتنع ولا أحكيها.
***
تناولنا عشاء متأخرا قررنا بعد الانتهاء منه العودة إلى غرف نومنا فلم يتبق من الليل ولا الحديث ما يستحق السهر أطول مما سهرنا. لم أجد فى جسمى الطاقة اللازمة لخلع ملابسى فاستسلمت للتعب وألقيت بنفسى على الفراش بملابس النهار. كدت أغفو لولا أن رن جرس الهاتف. رفعت السماعة وجذبتها نحوى بيد مترددة. وصلنى صوت المتحدثة والسماعة ما زالت فى منتصف الطريق. «حط أى شىء عليك وتعالى، نحنا ناطرينك بالجناح اللى بآخر الطابق». انتفضت الطاقة. وجدتنى فى دقيقتين أغلق باب غرفتى وأقف لأجلد ذاتى المتقدمة فى العمر التى جعلتنى أنسى الاستفسار من محدثتى عن رقم الجناح. أعفانى من جلد ذاتى وقوف محدثتى فى نهاية الطابق من ناحية اليمين تشير لى بالتوجه نحوها. مشيت بخطوات ثقيلة فرضتها حالة جسد أرهقته السنين ويوم عمل طويل لأجد سيدة تقدم بها العمر تترك باب غرفتها فينغلق بينما أقبلت تمشى نحوى بتثاقل واضح وقد فتحت ذراعيها تبشرنى بحضن كبير. اتجهنا نحو الجناح لينفتح الباب ويستقبلنى (رجل تقدم بدوره فى العمر). ليجرنى بيده إلى مقعد وثير وباليد الأخرى يجر شريكته لتجلس بجانبه. جلست لكن بعد أن انحنت تقبل رأسه المتوج بشعر أبيض كثيف.
***
قال برهان بعد أن اكتمل واجب تقديم الشراب وما يصاحبه «أترك لك يا راضية مهمة إدارة الحديث، فأنا أول من يعرف مكانة هذا الرجل (الختيار) عندك منذ عملتما معا فى أحد المشاريع البحثية وكان شابا فى منتصف العمر. نظرت راضية إلى برهان نظرة تذكره بأنه كان مثلها فى ذلك الحين مراهقا. ثم نظرت ناحيتى لتقول: «إنما أنت الذى أوحيت لنا برسالة حفظناها وحافظنا عليها. أنت الذى كنت تنصح الشباب، كل الشباب، بألا يضيعوا فرصة حب. كنت تقول: طوروه، عدلوه، وقروه وبجلوه ولكن لا تهينوه يوما أو تتجاهلوه أو ترتكبوا المعصية الكبرى، أن تئدوه حيا. لأنكم إن فعلتم فلن يغفر القدر لكم. لن تناموا ما حييتم نوما هادئا. لن تعرفوا سعادة مكتملة ولن تصدقوا أولادكم النصيحة المخلصة».
«لا شك أنك تذكر ما حدث لنا فى مكتبك. وقعنا فى الحب عندك. شجعتنا. أذكر وبرهان دائما يذكرنى بأنك كنت تفاخر بحكاية حبنا كل حكايات الحب السائدة وقتذاك. وعندما قرر الأهل التفريق بيننا وكانت لهم أسبابهم القوية لم تتخل عنا. كنت تقول إن ثقتك فى قوة الحب لا حدود لها، وأننا سوف نجد الحلول المناسبة. وبالفعل وجدنا أكثر من حل. من هذه الحلول أننا تعهدنا أمام أنفسنا أن نلتقى لمدة يومين متصلين فى تاريخ محدد لا يتغير مرة كل عام، وأن أتولى بنفسى التخطيط لهذه الرحلة ووضع الضمانات المحكمة بكل الإتقان الممكن لمنع تسرب خبر عنا والحرص على تفادى فرص الالتقاء بمعارف أو أقرباء. نجحنا على امتداد خمسين عاما. لم نخطئ مرة واحدة. الصدفة تدخلت مرتين ومعك أنت بالذات، مرة فى أسكتلندا والمرة الراهنة فى قبرص. الظرف القاهر تدخل أربع أو خمس مرات ليحرم واحدا منا من السفر فكان الآخر يذهب ويقضى اليوم فى المكان المحجوز. التقينا فى أكثر من أربعين دولة. زرنا جميع القارات. تجاوزنا عقبات لن تصدق كم كانت شاقة ومحرجة وقاسية. وها نحن وقد دخلنا عقد السبعين من عمرنا نشهد بأننا لم نبخل بالحب على عائلتينا ولم نساوم على حبنا. ليطمئن قلبك أكرر أننا لم نخطئ ولن نخطئ. عشنا خمسين عاما بالحب وفى الحب سعداء. نتعهد الليلة فى حضورك أننا سوف نلتقى فى موعدنا المعتاد حتى آخر يوم، ونعدك بأننا سوف نعيش السنوات الباقية من عمرنا سعداء بالحب وفى الحب الذى تراه».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved