من وعد بلفور إلى سايكس ــ بيكو إلى.. قيام إسرائيل: لا مستقبل عربيًا بلا مصر وسوريا.. والبقية تأتي!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 16 يوليه 2019 - 11:00 م بتوقيت القاهرة

يهرب العرب، فى أربع رياح أرضهم من واقعهم البائس إلى أحلامهم مستحيلة التحقق، ويطوى كبار السن منهم دفاتر ذكرياتهم على ما كانوا قد أنجزوه أو كانوا على وشك إنجازه لولا... و«لولا» هنا متعددة المعنى وإن ظلت نتائجها واحدة: الخيبة.
الهزيمة أمام العدو الإسرائيلى هى النتيجة المنطقية لتقاسم أرضهم بين بريطانيا وفرنسا تحقيقا لمعاهدة سايكس ــ بيكو 1920، والتى جاءت فى سياق وعد بلفور الذى «أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق» قبل ذلك ــ 1917.. وهكذا تم تقطيع المشرق العربى إلى دول لا مقومات لوجودها أو استمرارها، لا فى التاريخ ولا فى الجغرافيا.
تلك كانت التمهيدات الضرورية لزرع الكيان الصهيونى فى فلسطين على حساب شعبها الذى كان دائما شعبها، ووحدة أمتها التى صارت كيانات أو دولا شتى مرتهنة بوجودها وأسباب قيامها بالتمهيد لاستيلاد «دولة الصهيونية» إسرائيل ( 1948).
بالتزامن كانت شركة نفط العراق (I.P.C) تمد أنابيبها، عبر سوريا، إلى شمالى لبنان (الدعتور ــ قرب طرابلس).
وجاءت بعدها شركة التابلاين الأمريكية لتمد أنابيب النفط السعودى إلى جنوب لبنان (الزهرانى قرب صيدا) ــ بديلا من حيفا، التى كانت قد باتت ضمن كيان الاحتلال الإسرائيلى.

ثم توالت مشاريع الأحلاف الأجنبية لوضع هذه الدول حديثة الاستقلال، هزيلة القدرات الاقتصادية والعسكرية، تحت الوصاية الغربية، الأمريكية الآن، بدءا بمشروع أيزنهاور (1950) ثم حلف بغداد (1953) إثر العدوان الثلاثى على مصر ــ جمال عبدالناصر (1956) وقبيل إقامة دولة الوحدة (مصر وسوريا) تحت قيادة عبدالناصر1958.. ومن بعده «مشروع الدفاع المشترك» (الأمريكى) والذى كان يطمح إلى «احتواء» المنطقة جميعا.
***
لم يكن سرًا أن الهدف الحقيقى من هذه الإجراءات جميعا كان توفير الحماية الدائمة للكيان الإسرائيلى الذى زرع فى قلب الوطن العربى: فلسطين.. وفى السياق ذاته ضرب وحدة الأمة وتفتيت وطنها الكبير إلى مجموعة من الكيانات الضعيفة والمستنزفة بخلافات «حدودية» تضرب وحدة الأمة وتزرع بذور الفتنة الدائمة، خصوصا باعتمادها «الطائفية» حيث أمكن، والمذهبية حيث تنفع فى إضعاف الوحدة الوطنية، وتدمر الحلم السنى بالوحدة العربية.
صار المحيط آمنا للدولة القوية المبتدعة والمحمية بالنفوذ والمال والسلاح الغربى وتصدير يهود العالم (بما فى ذلك بعض أقطار الوطن العربى، مصر، العراق، سوريا، لبنان، ليبيا والمغرب) إلى الكيان المستحدث: إسرائيل.
أقيمت إسرائيل بالحرب الدولية وتفتيت الوطن العربى إلى دويلات ضعيفة وعاجزة وليست لمعظمها الشرعية الوطنية أو القومية، بل هى تقاسم لمناطق النفوذ بين المستعمرين القدامى (بريطانيا وفرنسا) والمستعمر الجديد (الولايات المتحدة الأمريكية ــ الحامية الأساسية للكيان الإسرائيلى بمشاركة ملموسة من الاتحاد السوفيتي).
المواجهة، إذن، بين القوة المطلقة الجامعة بين الغرب بأوروبا والولايات المتحدة، والشرق، ممثلا ــ هنا، بالاتحاد السوفيتى ومعسكره الاشتراكى.. وبين «بعض» الدول العربية. وليس جميعها وأبرزها مصر التى كانت قد أجلت للتو عسكر الاحتلال البريطانى (1954) ثــم داهمها العـدوان الثلاثى (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ــ خريف 1956).
ولعل الاندفاع نحو إقامة دولة الوحدة ــ الجمهورية العربية المتحدة ــ بين مصر وسوريا، مثَّل هجوما استباقيا بالقوة الشعبية على محاولات استفراد الدول العربية واحدة إثر أخرى بمشاريع الأحلاف الغربية التى تعددت تسمياتها وإن ظل هدفها واحدا: تمكين العدو الإسرائيلى من أن يكون أقوى من الدول العربية المحيطة بكيانه مجتمعة.
لكن هذه الدولة التى استولدتها الضرورة، على شكل دفاع هجومى، لم تعمر طويلا، إذ انفرطت عراها بانفصال سوريا عبر انقلاب عسكرى كان يمكن صده لو أن القيادة كانت متنبهة إلى المفعول المختزن للإقليمية ــ الانفصال، والتباعد بين المجتمعين المصرى والسورى اللذين لم يجمعهما إلا التقدير العالى لشخصية جمال عبدالناصر التاريخية.
***
على أن روح الثورة كانت تحرك جماهير الشعب العربى وتدفعها نحو رفض واقعها، وهكذا انتصرت ثورة الجزائر على الاستعمار الاستيطانى الفرنسى الذى أنكر على الجزائريين هويتهم الوطنية وانتماءهم العربى، فقامت جمهورية الجزائر الديمقراطية فى 20 سبتمبر 1962، برئاسة المجاهد أحمد بن بلة.
وفى الوقت ذاته انتفض شعب اليمن فأسقط نظام الإمامة (آل حميد الدين) وأقام الجمهورية..
ثم وقعت ردة على الانفصال فى دمشق، وعاد حزب البعث إلى السلطة،
ووقع انقلاب عسكري ــ بعثى فى العراق بقياد عبدالسلام عارف.
وجرت محاولات غير جدية لإقامة وحدة ثلاثية بين مصر عبدالناصر وكل من سوريا والعراق، فلم تنتج إلا الخلافات.
وجاءت هزيمة 5 يونيو 1967 لتتوج الانقسامات العربية بالعار، وتدفع حركة المقاومة الفلسطينية إلى الواجهة، بعد سنوات من النضال السرى.
على أن هذه الحركة سرعان ما أخافت العرش الأردنى، فتركها تنمو مقدما لها «الإغراءات» لتفسد عبر السيطرة غير المشروعة على مرافق الدولة والشارع، مطمئنا إلى خطورة الانقسامات ضمن فصائلها المتعددة، خصوصا وإن بعض الأنظمة العربية بادرت إلى استرهان بعض الفصائل بتقديماتها من المال والسلاح.
وكان لا بد أن يؤدى كل ذلك مجتمعا إلى الصدام بين النظام الملكى الهاشمى، وبين المقاومة الفلسطينية التى كانت قد غدت متعددة الرءوس، وغرقت فصائلها فى مغريات السلطة خصوصا وقد توفر لها المال والسلاح.
وفى أوائل سبتمبر 1970 تجددت الاشتباكات العنيفة بين الجيش الأردنى وفصائل المقاومة الفلسطينية، ما استدعى عقد قمة طارئة فى القاهرة لصياغة تفاهم يقضى بخروج المقاتلين من عمان إلى جرش.. ثم أخذوا يندفعون، نحو لبنان عبر سوريا التى كانت ترعى فصيلها الخاص (الصاعقة) وترفض تمركز كتلتهم المقاتلة بفصائلها المتناحرة فى أراضيها.
وهكذا انتهى الصدام بإخراج المقاومة الفلسطينية، قيادة ومقاتلين، من الأردن وعبر سوريا إلى لبنان الذى استقبلهم مضطرا، محاولا تنظيم وجودهم فى مناطق محددة من الجنوب، على حدود فلسطين، وذلك بموجب اتفاق بين حكومته والقيادة الفلسطينية برئاسة عرفات، عقد تحت رعاية عبدالناصر فى القاهرة.
غير أن هذا الاتفاق وجد من يعارضه فى لبنان، بقوة سياسية ينقصها السلاح..
***
أثقل لبنان «بالثوار» الذين فقدوا ميادين قتالهم الأصلية فاحتشدوا فيه.
وكانت الأنظمة العربية التى لا تريد القتال، ولا تطمح إلى تحرير فلسطين، قد ضاقت ذرعا بالوجود الفلسطينى المسلح واطمأنت إلى أن النظام اللبنانى المدول منذ نشأته، والمطأف بالقصد، هو المؤهل ليكون «مدفن» المقاومة الفلسطينية، ولو بعد حين.
.. وهذا ما جرى فى منتصف السبعينيات: إذ بادرت أطراف لبنانية بقيادة حزب الكتائب إلى افتعال اشتباك مع بعض المقاومين الفلسطينيين فى منطقة عين الرمانة ــ إحدى ضواحى شرق بيروت، سرعان ما تحول إلى حرب أهلية مفتوحة كان ختامها المحزن الاجتياح الإسرائيلى للبنان حتى عاصمته بيروت، و«التفاهم» الأمريكى ــ العربى على إجلاء المقاومين الفلسطينيين عنه و«تهجيرهم» موزعين على أقطار عدة، مع اختيار تونس كمقر لقيادتهم.
وكانت تلك نقطة النهاية للمقاومة الفلسطينية خارج فلسطين.. ولانكشاف التواطؤ الأمريكي ــ الإسرائيلى، ولتعزيز الأنظمة الطائفية فى لبنان وسائر دول المشرق.
ولسوف يبدأ تاريخ جديد لهذه المنطقة، لا سيما بعد خروج مصر من ميدان الصراع العربى ــ الإسرائيلى مع معاهدة كامب ديفيد.
وفى غياب أو تغييب مصر، واحتلال العراق، وتفجير سوريا من الداخل، وإشغال لبنان بمباذله وانقساماته الطائفية، وانطفاء وهج الثورة الفلسطينية، يبقى الأمل فى مقاومة الداخل الفلسطينى.. شرط احتضانه عربيا، وهذا متعذر فى الوقت الحالى.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved