الأفكار السيئة أيضا لها أجنحة

جورج فهمي
جورج فهمي

آخر تحديث: الجمعة 16 يوليه 2021 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

اختار يوسف شاهين أن ينهى فيلمه الشهير «المصير» عن قصة حياة القاضى والفيلسوف ابن رشد بعبارة «الأفكار لها أجنحة، ماحدش يقدر يمنعها توصل للناس»، وهى العبارة التى تُنسَب إلى ابن رشد نفسه عندما لاحظ أحدَ تلامذته وهو يبكى بحرقة على كتبه بعد أن قرر الخليفة يعقوب المنصور حرقها. فقد قال ابن رشد لتلميذه: «إذا كنت تبكى حال المسلمين فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعا، أما إذا كنت تبكى الكتب المحروقة فاعلم أن للأفكار أجنحة وهى تطير لأصحابها». عبّر عن المعنى نفسه الكاتب الفرنسى فيكتور هوجو بعد أكثر من سبعة قرون، حيث يقول فى نهاية كتابه «قصة جريمة» عن حصار القوات الألمانية للعاصمة الفرنسية باريس فى العام 1870، إن من الممكن هزيمة الجيوش ولكن من غير الممكن هزيمة الأفكار، فى إشارة إلى أفكار الثورة الفرنسية.
بالرغم من اختلاف الزمان والمكان، أكّد ابن رشد وهوجو على المعنى نفسه، وهو قوة الأفكار وقدرتها على تجاوز الحواجز والحدود، فى مواجهة القمع وحرق الكتب فى حالة ابن رشد، وانقضاض الجيوش الألمانية على عاصمة الثورة الفرنسية فى حالة هوجو. قصد كلٌّ منهما الأفكار «الجيدة» إذا جاز التعبير، كما هى حال الفلسفة والنقد فى حالة ابن رشد، وأفكار الثورة الفرنسية المتمثّلة فى الحرية والعدالة والمساواة فى حالة هوجو. لكن ما قاله القاضى المسلم والأديب الفرنسى ينطبق أيضا على الأفكار «السيئة». فتلك الأفكار لها أجنحة هى الأخرى، وقد تكون هى أيضا عصيّة على المقاومة أكثر من مقاومة الجيوش.
•••
إذا أراد المرء تطبيق مقولتَى ابن رشد وهوجو على سوق الأفكار فى منطقتنا العربية خلال نصف القرن الأخير، فإن المقولتَين تنطبقان على الأفكار التى أسّست للعنف أكثر من أى أفكار أخرى خلال الأعوام الخمسين الأخيرة. خذ على سبيل المثال كتاب سيد قطب «معالم فى الطريق»، فلا أعتقد أن كتابا آخر ينافس هذا الكتاب فى شهرته خلال العقود الأخيرة، ولا فى قدرته على التأثير على أفراد وجماعات، ودفعهم إلى ممارسة العنف، منذ كتبه قطب فى منتصف ستينيات القرن الفائت، مرورا بموجة العنف التى شهدتها مصر خلال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وصولا إلى دولة داعش فى العراق وسوريا خلال السنوات الأخيرة. أشار الفريق الصحفى لوكالة أسوشيتد برس، الذى غطّى هجوم القوات الكردية على آخر معاقل داعش فى بلدة الباغوز شرق سوريا خلال العام 2019، إلى أن المقتنيات الموجودة فى أحد أماكن تمركز مقاتلى داعش ضمّت نسخة من كتاب «معالم فى الطريق» تركها مقاتلو داعش خلفهم.
كيف استطاعت أفكار سيد قطب تجاوز الجغرافيا والزمن، وهى لا تزال مستمرة فى دفع البعض إلى حمل السلاح؟
أهملت العلوم السياسية هذا النوع من الأسئلة، على أهميّته، لفترة طويلة من الزمن. فقد ظلّت لعقود غير مهتمّة بدراسة الأفكار، وكيفية انتشارها، ومعرفة لماذا ينتج بعضها أشكالا من الفعل السياسى، بينما يفشل بعضها الآخر، ولماذا بعضها يطير عبر الحدود والزمن، فيما بعضها الآخر يسقط ويفقد بريقه. تُعلّق إحدى أساتذة العلوم السياسية على هذا التجاهل لدراسة الأفكار قائلةً إنها مفارقةٌ أن يولى باحثو العلوم السياسية، الذين يتركّز جلّ عملهم على إنتاج الأفكار وفهمها، أهميةً ضئيلةً لدور الأفكار فى فهم الظواهر السياسية.
بيد أن دراسة الأفكار شهدت صحوة خلال العقدين الأخيرين. ولعل إحدى أبرز الدراسات هى دراسة مارك بليث حول الأفكار الاقتصادية، وقدرتها على الصعود وتغيير السياسات الاقتصادية. وبينما ينصبّ اهتمام الكاتب على الأفكار الاقتصادية وقدرتها على إنتاج سياسات بديلة فى أوقات الأزمات الاقتصادية، يمكن أن تكون دراسته لدور الأفكار مفيدةً فى دراسة تأثير الأفكار بشكل عام، وليس بالضرورة الاقتصادى منها فقط. ويقدّم الكاتب الإنجليزى ثلاث مراحل رئيسية تمرّ بها الأفكار حتى تستطيع طرح واقع بديل. المرحلة الأولى هى قدرة الأفكار على إضفاء معنى للأزمة التى يواجهها الشخص أو المجتمع، والثانية قدرتها على بناء تحالفات بين مجموعة من الأفراد الذين يشاركون فى التشخيص نفسه للأزمة ليتحرّكوا معا من أجل حلّها. أما فى المرحلة الثالثة فترسم الأفكار صورةَ الهدف النهائى المُراد الوصول إليه، وتقدّم الأدوات المطلوبة للوصول إلى تلك الغاية.
•••
بتطبيق التحليل السابق على كتاب سيد قطب، قدّم الأخير تفسيره للصراع السياسى فى مرحلة ما بعد الاستقلال فى العالم الإسلامى. فقد ظنّ الكثير من الإسلاميين أنه بانتهاء الاستعمار للدول العربية والإسلامية، ستقوم النخب الحاكمة الجديدة بتبنّى رؤيتهم لشكل الحكم. وقد هال كثيرين أن تسعى هذه النخب السياسية إلى بناء نظم سياسية لا تتبنّى بالضرورة أفكارهم، وترَكَهم هذا الأمر فى غضب وحيرة. فإذا كان الصراع ضدّ الاستعمار والنظم السياسية المتحالفة معه لم يحتَج إلى أيّ تأصيل دينى، فإن الصراع مع النظم السياسية الوطنية بعد الاستقلال فرَضَ على الإسلاميين إعادة التفكير فى طبيعة الصراع السياسى. وقد جاء كتاب «معالم فى الطريق» ليقدّم تفسير قطب لهذا الصراع، الذى يراه صراعا حول العقيدة بين المؤمنين بحاكمية الله وغير المؤمنين بها. فكانت فكرة تكفير الأنظمة السياسية هى إجابة سيد قطب على سؤال الإسلاميين: لماذا لم تتبنَّ نظم ما بعد الاستقلال رؤيتنا؟ كما أن قطب قدّم الأداة المطلوبة لمواجهة تلك النظم، وهى الجهاد من أجل بناء المجتمع الإسلامى.
نجحت أفكار سيد قطب فى الوصول إلى قطاعات من الشباب الإسلامى الغاضب، إلا أنها فى المقابل فشلت فى ما وصفه مارك بليث ببناء تحالف بين أطراف متعددة من أجل تغيير المؤسسات. ويعود هذا الفشل فى الأساس إلى تصدّى الأصوات والمؤسسات الدينية، وفى مقدّمتها الأزهر الشريف، لتفسير قطب لفكرة الحاكمية، وما ترتّب عليها من تكفير ومن ثم حمل السلاح. فعلى سبيل المثال، كتب الشيخ عبداللطيف السبكى، رئيس لجنة الفتوى فى الأزهر فى ذلك الوقت، ردّا مستفيضا على كتاب «معالم فى الطريق»، آخذا على عاتقه الردّ صفحةً بصفحةٍ على ما ورد فيه. كذلك فعل قطاعٌ كبيرٌ من المثقّفين المسلمين الذين تصدّوا لأفكار «معالم فى الطريق» فى كتاباتهم.
لقد تصدّت المؤسسات الدينية لانتشار أفكار قطب داخل المجتمعات الإسلامية، بيد أن تلك الأفكار لا تزال مهيمنة على سوق العنف والتشدّد، لما تقدّمه من رؤية دينية تقسم المجتمع إلى فريقين، المؤمنين وغير المؤمنين، وهى رؤية تناسب الشباب المتشدّد الباحث عن إطار دينى يعبّر عن راديكاليته السياسية. كما أن استخدام قطب مفهومَ الجهاد أداةً للصراع سمح لأفكاره بالاستمرار على الرغم من فشل التنظيمات المتشدّدة منذ السبعينيات وحتى الآن فى معاركها ضدّ النظم السياسية. فالجهاد لا يفترض النصر فى معركة التغيير، بل هو واجب دينى بصرف النظر عن النتائج، وهو ما يختلف عن تحليل مارك بليث لصعود الأفكار الاقتصادية، التى إن فشل تطبيقها فى تحقيق النتائج المرجوة، فإن الداعين إليها مضطّرون للتخلّى عنها والبحث عن أفكار بديلة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved