البحث عن شهادة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 16 يوليه 2021 - 7:25 م بتوقيت القاهرة

في مكالمة تليفونية طالت وامتلأت بتفاصيل مثيرة، حكت الصديقة ما استجد لديها من أحداث على مدار أيام ماضية. كانت قد مرت بظرف عصيب، لم تفقد خلاله الصبر ولا تخلت في مواجهته عن شجاعتها المعهودة وقوة احتمالها؛ بقيت صامدة هاشة باشة رغم اشتداد الأزمة. توفيت والدتها في أعقاب مرض عضال لم يفلح في ردعه كبار الأطباء والمتخصصين.
•••
رحلت الأم وودعتها الصديقة العزيزة بما يليق، وراحت تلملم شتات ما تبقى وتعيد ترتيب حياتها وتضع الأولويات وتحذف ما كان على رأسها ولم يعد له مكان بنفاذ المحتوم.
•••
سألتها أن نلتقي فأجابتني بأنها لا تزال في ذروة الانشغال؛ تنهي أوراقًا رسمية مهمة، وتتقدم إلى جهات متعددة بما يتطلب الوضع الراهن من مستندات، وتستخرج أصولًا ومرفقات.
•••
عرضت المساعدة فشكرتني، مؤكدة أن ما تقوم به لا تجدي معه مساعدات؛ فثمة مستخرجات لن تعطى لغيرها في درجات القرابة والصداقة والمصاهرة، وثمة نماذج وطلبات لن تُقبل إلا بحضورها الكامل؛ بشخصها وقيدها وبطاقة تعريفها وشهادة ميلادها.
•••
كلمات العزاء في العادة مكررة، وهي أبدًا غير كافية، فالمكلوم في عزيز لن يتخفف من مشاعره ولو قرأت له قصائد الرثاء، ولن يتبدل مزاجه ولو اجتمعت مفردات اللغة كلها في مواساته؛ مع هذا لا مفر من تكرار الكلام والدفع بعبارات مستهلكة؛ يميزها فقط صدق النوايا وجدية العزم.
•••
قلت في إصرار إن عندي وقتًا يمكنني استغلاله في أداء مهمة تكلفني بها؛ فسمعت ضحكتها على الطرف الآخر؛ تزيح ولو لبرهة ما حاق بها من أحزان. أجابتني وعلى طرف اللسان أن شر البلية ما يضحك؛ بصعوبة الإنابة عنها في أي شيء؛ فهي نفسها قد فشلت في إتمام بعض المهام.
•••
دهشت لحديثها فموقف الموت واضح لا يستدعي هذا القدر البادي في حوارنا من التعقيد. ألححت في السؤال فأسعفتني بالتفاصيل. قالت إن لوالدتها الراحلة معاشًا وإنها أرادت إبلاغ الجهات المعنية لإيقافه. ذهبت لاستخراج شهادة الوفاة التي طلبها المسؤولون؛ فردت الموظفة بأن عليها أولًا إثبات الوفاة، ولما سألتها صديقتي متعجبة كيف تثبتها؛ لم تحظ بإجابة. قالت الموظفة إن الشهادة لا بد وقد صدرت ما دام الدفن قد تم. لم يكن للشهادة من أثر وسط الارتباك الطبيعي والأثر المتوقع، وقد تصورت الصديقة أن استخراج أخرى أمر سهل يسير؛ لكنها كانت مخطئة. أمرتها الموظفة أن تبحث هنا وهناك، أن تفتش في حقيبة يدها وأركان منزلها فالورقة بالتأكيد عندها ولا بد أن تجدها.
•••
أرسلت صديقتي إلى النقابة التي كانت والدتها تتلقى منها المعاش، مقرة بحدوث الوفاة؛ فجاء الرد قصيرًا حاسمًا: لا يمكننا إيقاف المعاش إلا بعد الحصول على الشهادة التي تثبت الوفاة.
•••
ضحكت بدوري مع التوغل في تفاصيل حكايتها؛ فالعادة أن يحدث العكس. يتكاسل أهل المتوفي عن مخاطبة الجهات الرسمية، أو يتجاهلون الموقف عمدًا، أو تلهيهم الفاجعة عن اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، وقد يستمر المعاش شهورًا فيما صاحبه أو صاحبته قد غيبهم الموت وواراهم الثرى.
•••
دفع حديثنا إلى ذاكرتي بموقف شبيه وإن كان على الجانب الآخر؛ فقد دأب موظفو البنك على طلب ما يفيد بقاء جدتي على قيد الحياة كي يصرف لها المعاش. كان غياب الإثبات يعني إيقاف موردها الشهري الوحيد، بينما ذهابها بشخصها إلى البنك مشقة تنهك جسدها الواهن.
•••
المعاش في الحالين رهن بشهادة؛ ورقة تثبت الحياة وأخرى تثبت الوفاة وما أسخف الطلبين؛ الموت لا احتمالات فيه ولا نسبية، وتصريح الدفن لا شك فيه، وتدوين الحدث في السجلات الرسمية لا بد وأنه قد تم بصورة أو أخرى، أما عن الحياة؛ فهي الأصل وطلب تأكيدها إهانة موجعة في الكبر ونقيصة، والأكثر عقلانية وصونًا لكرامة البشر في هذه الحال أو تلك؛ أن تربط بين الهيئات والمؤسسات قنوات تنتقل عبرها المعلومة تلقائيًا ويتم تحديثها بانتظام.
•••
لا أدري إن تغيرت النصوص واللوائح أو تبدلت الأوامر والتعليمات، والحل الذي ورد فورًا إلى ذهني لم يكن سوى الكف عن محاولة الحصول على الشهادة، وترك المعاش في مكانه سليمًا معافى، أو إعطائه دوريًا لمن بحاجة إليه، أما استهلاك الوقت واستنزاف الجهد وإن عن رغبة في القيام بما هو صائب؛ فاختيار في غالب الظن لا يجدي.
•••
عرفنا عن أنفسنا منذ الصغر إشارة موحية، تجري على الألسنة ما استدعتها غرائب الأحوال، وما انفصم الرابط بين الواقع وما علق به وحوله من أوراق؛ لا تنم عن حقيقته ولا تكشفها. نقول كلما ضقنا ذرعًا بمستندات نحصلها، وأخرى نطالب بها، وثالثة تعج بها أدراجنا ومكاتبنا وحقائبنا دون أن نجد لها فائدة: بلدنا بلد شهادات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved