خواطر حول «حديث عيسى بن هشام»!

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: السبت 16 يوليه 2022 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

ــ 1 ــ
ثمة «كتابة على كتابة» تعيدنا إلى نصوص ــ مهما مر عليها من زمن ــ فإنها تظل بفضل خصائصها التكوينية وجدّة طرحها الاجتماعى، ورؤيتها الفنية المتميزة، جديرة بأن نعود إليها من آن لآخر، وأن نتذكر حضورها الجمالى والإبداعى، ونعيد التذكير بها، ولفت انتباه الأجيال الجديدة إلى أهميتها وقيمتها.
منذ أسابيع أنهى كاتبنا القدير محمود الوردانى سلسلة مقالات رائعة، كان ينشرها على حلقات أسبوعيًّا فى (أخبار الأدب)، عن النص السردى المؤسس «حديث عيسى بن هشام» للرائد الكبير محمد المويلحى. كنت مستمتعا أيما استمتاع بالكتابة الجميلة، للمبدع الكبير وهو يجول بنا فى دهاليز وخبايا هذا النص المدهش فى تاريخنا الأدبى المعاصر.
وأعادتنى كتابة أستاذنا الوردانى إلى ذكريات جميلة وممتعة، أظنها لا تخصنى وحدى، بل تشمل أيضًا كل من درس الأدب العربى الحديث باهتمام، ودرس نشأة الأنواع الأدبية الحديثة فى الأدب العربى؛ كالرواية والقصة القصيرة والمسرحية، وتوقف تفصيلًا عند النصوص التأسيسية الأولى فى نشأة هذا الفن، والإشكالات المحيطة بهذه النشأة؛ زمنيًّا ونصيًّا!

ــ 2 ــ
قرأت «حديث عيسى بن هشام» لأول مرة فى طبعته الصادرة عن مكتبة الأسرة (1996) وكان الغلاف بريشة الفنان الراحل جمال قطب، وقد أحببتُ هذا الغلاف جدًّا لأنه جسَّد بصريا، وبألوان زاهية معجبة، الشخصيتين المحوريتين اللتين تدور من خلالهما أحداث السردية النصية؛ عيسى بن هشام «الراوى»، وأحمد باشا المنيكلى الشخصية الخيالية التى قامت من رمَسها «قبرها» لتصحبنا فى ربوع القاهرة، وترصد التغيرات الاجتماعية والثقافية التى طالتها وطالت أهلها فى هذه الفترة الحيوية من تاريخ مصر الحديث والمعاصر.
أذكر أن أول من حدثنا حديثًا مستفيضًا عن هذا النص التأسيسى المرحوم الدكتور سيد البحراوى، وقد أفاض فى تحليل جوانب الشكل القصصى والروائى فى «حديث عيسى بن هشام» ودلالاته الاجتماعية؛ وللأمانة فقد كان تحليل البحراوى مدهشًا ومثيرًا للإعجاب على مدى عدة محاضرات، ثم قرأت التحليل الوافى الذى قدَّمه البحراوى للنص فى كتابه المهم «محتوى الشكل فى الرواية العربية ـ النصوص الأولى».
ــ 3 ــ
فى مرحلة تالية أدركت أهمية وقيمة هذا النص؛ حينما قرأت ما قاله نجيب محفوظ، وهو من هو عنه؛ يقول محفوظ فى حواراته مع محمد سلماوى:
«... يأتى ذكر «حديث عيسى بن هشام» التى أعتبرها فى الحقيقة مولد القصة المصرية الحديثة، وهى لم تأخذ حقها من البحث‏، ‏ إننى أرى أن «حديث عيسى بن هشام» هى رواية عظيمة جدًّا تقوم على أساس التراث فى الشكل؛ لأنها تعتمد على أسلوب المقامة، أما المضمون فهو ذلك الذى اتخذته الرواية الحديثة فى مصر بعد ذلك، وحتى يومنا هذا‏، ‏ وهو النقد الاجتماعي»، ‏ والحقيقة أن جيلنا بأكمله تأثر بهذه الرواية واقتفى أثرها بهذا المعنى‏».‏
وبالتالى، فقد قررت أن أقرأ ما كتب عن «حديث عيسى بن هشام» فى الكتب والدراسات التى بحثت موضوع نشأة الرواية العربية أو التى عكفت على تحليل النصوص الروائية الأولى، قرأت ما كتبه عبدالمحسن بدر، وعلى الراعى، وجابر عصفور، وأنجيل بطرس سمعان، وشكرى عياد، وروجر ألن، وأحمد الهوارى.. وغيرهم كثير.
وأدركت أن هذا النص تحديدًا يتجاوز بكثير كونه نصا أوليا أو نصا تأسيسيا فقط فى مسيرة نشأة الرواية العربية الحديثة، بل قد حمل أيضًا فى باطنه بذور تحديث وتجديد وإمكانات هائلة على مستوى الشكل كان يمكن حال تطورها أن تخلق شكلا روائيا ذا خصوصية عربية أصيلة.
ــ 4 ــ
و«حديث عيسى بن هشام»، فى أبسط تعريفٍ له، نص سردى يكشف عن النزوع الأخلاقى والاجتماعى لمؤلفه، من خلال استخدام السرد الذى يذكِّر بأساليب السرد فى التراث العربى القديم، وبخاصة «المقامة».
ويوظف محمد المويلحى شخصية عيسى بن هشام راوى «مقامات بديع الزمان الهمذانى» الشهيرة فى التراث العربى، بأسلوبٍ يشبه أسلوب المقامات ذاته من حيث اعتماد البديع والسجع والمحسنات اللفظية الأخرى المعروفة فى البلاغة الكلاسيكية العربية.
ورغم ذلك، يتميز النص بخفة الظل والمفارقة الطبيعية، ليحكى للناس حلمًا رآه فى نومه، متخذًا من حكاية المنام موضوعًا شيقًا وبناءً بسيطًا يستغله ليشرح من خلاله أخلاق الناس فى تلك الفترة، وعاداتهم وتقاليدهم، وما طرأ عليها من تغيرات وتحولات، تحت وطأة الاحتكاك بالثقافة الأوروبية الحديثة.
ــ 5 ــ
ويتجلى فى هذا السرد الذى عالج موضوعا اجتماعيا حداثيا، من خلال شكل قصصى عربى كلاسيكى، ما عاناه رواد الأدب العربى الحديث من معضلات فى تطويع اللغة العربية للتعبير عن مظاهر التغير التى طرأت على مجتمعٍ كان يبدأ أولى خطواته نحو الحداثة، ومن ثم لم تكن اللغة تواجه مشكلاتٍ فى تسمية الأشياء والمخترعات الحديثة فقط، بل فى التعبير عن مجمل الأخلاق والأفكار الجديدة.
وتتضح هذه المعاناة، كما يقول أحمد الهوارى، إذا قورنت لغة السرد والوصف الأقرب إلى موروث النثر، والبديع بما فيه من تنميقٍ، بلغة الحوار التى تحررت من قبضة هذا الموروث.
يصف المويلحى فى «حديث عيسى بن هشام» المجتمع المصرى بتفصيل كبير، وهو يستخدم فى سبيل ذلك وسيلة أدبية تتمثل فى الشخصية المتلهفة لرؤية كل جوانب الحياة المصرية المعاصرة، ومعها شخصية أخرى تأخذها فى جولة بالمجتمع القاهرى، وهذا هو السيناريو الكلاسيكى، كما يقول روجر آلن فى تقديمه للنص فى طبعته الصادرة عام 2002، لأدب الصعلكة أو التجوال، حب الاستطلاع والتحرى والاكتشاف والتعليق.
ويتبع المويلحى، باستخدامه لهذا الأسلوب، ما أرساه الهمذانى من تقاليد (فى القرن الرابع الهجري)، قبل قرون سبقت لكنه أيضًا يضع عمله فى إطار سلسلةٍ من الأعمال أُلِّفت خلال القرن التاسع عشر لتعلِّق على، وتنتقد المجتمعات الغربية والشرقية على حدٍّ سواء فى أطر حقيقية أو متخيلة... (وللحديث بقية).

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved