موال السحور


أحمد مجاهد

آخر تحديث: الإثنين 16 أغسطس 2010 - 10:18 ص بتوقيت القاهرة

 لا يمكن أن يأتى رمضان دون رؤية الهلال، ولا يمكن أن نفطر قبل الاستماع لأذان المغرب، ولا يمكن أن أتناول سحورى دون أن أتذكر مسحراتى فؤاد حداد وسيد مكاوى الذى كنت أنتظره مساء كل يوم مستمتعا متعلما.

وقد اصطنع حداد قالبا فنيا للتسحيرة تنتهى بموال يأتى بعد قوله الشهير: «وكل شبر وحته من بلدى/ حته من كبدى/ حته من موال»: حيث يعلق الشاعر فى هذا الموال بصوته المباشر على الموضوع الذى تعرض له فى النص. والشاعر لا يلتزم ببنية فنية محددة لنظام قوافى هذا الموال، كما لا يلتزم بعدد معين لأبياته فى كل قصيدة، لكنه يتركه حرا بمعنى الكلمة، تذهب فيه رجل الشاعر مكان ما تحب، وهو مجذوب لصوت الطبلة وإيقاع الروح وفقا لطبيعة الموضوع وسخونته.

فعندما يتعلق الموضوع مثلا بالثورة والقضاء على الإقطاع، فإن موال المسحراتى الفلاح لابد أن يطول، حيث يقول:
يا حضرة الباشا فاكر ياما سحرتك
ودمعى تحت القمر بالليل مسح حارتك
وقلت لك خلى قطفه لك وقطفه لى
وربنا يخلى أطفالك وأطفالى
ولا كنت بتصلى ياباشا ولا بتصوم
غير كل حبة على السبحة تقول مخصوم
وكنت ياباشا مابتسمعش بالعربى
حضروا أطبا يردوا السمع والطاعة
حضروا أطبا يداووا نفس طماعة
افتح يا سمسم.. جماعة
حضروا بسماعة تكشف قلب سحَّارتك

فعصبة الأطباء لن تنجى الباشا إذا حانت ساعته، وفى لحظة الموت سينكشف ما بداخل قلبه ولن تفلح المسبحة والتظاهر بالإيمان على الناس فى الدنيا فى إخفاء حقيقة نواياه يوم الحساب.

وقد يقل طول الموال جدا وفقا لطبيعة النص وإيقاع النفس الشعرى، ففى التسحيرة الشهيرة التى تحمل عنوان «الاستيمارة» وتتحدث عن حيرتها مع صاحبها بين الموظفين من مكتب لمكتب دون إنجاز، يستنفد الشاعر مساحة النص وطاقته الشعرية فى تطويل رحلتها الفكاهية الساخرة، وعندما يصل إلى الموال يكتشف أنه لا يحتاج لأكثر من ثلاثة سطور فقط لتجميع خيوط النص، لأن تصوير الرحلة نفسها كان هو الوسيلة والغاية معا للسخرية من البيروقراطية، حيث يقول فى أقصر موال بنصوص المسحراتى كافة:

أنا صايم الشهر طول الشهر ودا فاطر
وانا ماشى فى الشغل قلبى سخن ودا فاتر
ما يتنقل شبر إلا بحبر ودفاتر
على أن الشاعر عندما يمسك بتلابيب انفعاله ويسيطر على التداعى الإيقاعى والدلالى للنص، فإنه يفضل أن يلعب فى ساحة الموال الخماسى المتعارف عليه حيث يقول مثلا:
رمضان يا شهر الصيام شهر الكرم دايما
من قبل ما أطالعك كان طالعك أيمن
أنا الذى هام فى حب الذى هيمن
سجدت له ولفيت البلد ودعيت
لا أوحش الله منك المسلمين أبدا

وصحيح أن قوافى الموال السابق تتفق فيما بينها عدا السطر الرابع وفقا لقواعد كتابته، لكن كلمات القوافى لا يوجد بينها الجناس المعتاد فى الموال الشعبى حيث تتشابه الكلمات وتختلف المعانى، لكننا لا نعدم وجود هذا النموذج أيضا فى مواويل مسحراتى حداد،

حيث يقول:
كان عندى زغلول ورايح للطبيب عارضه
جسمه رقيق ما تعرف طوله من عرضه
خَدُّه انجرح فى النسيم لما النسيم عارضه
ياللى حزين ع اللى فات وقتلت زغلولى
كان عندى حَبّ الدره أبرك من اللولى

ويمثل هذا الموال من وجهة نظرى المنهج الشعرى لفؤاد حداد خير تمثيل، فهو شاعر يحترم نسق البناء التراثى ويقدر عليه كما يتضح فى السطور الأربعة الأولى، لكنه لا مانع لديه من أن يكسر هذه القواعد البنائية الرتيبة فورا انحيازا للصورة، كما يظهر فى السطر الأخير الذى انحاز فيه للصورة الرائعة «كان عندى حَبّ الدره أبرك من اللولى» على حساب عدم العودة للقافية المتواترة فى كلمات «عارضه/ عرضه/ عارضه» ليغلق بها الموال صوتيا كما هو متبع.

وهذا الانحياز الإبداعى لا يدل على قلة صنعة كما قد يظن البعض، فحداد هو الصنايعى الأمهر فى تاريخ الشعر المصرى الحديث، وقد يتضح هذا فى الموال التالى:
صوموا وقولوا آمنا يا عباد الله
كونوا قلوب مطمئنة يا عباد الله
النصر فينا ومنا يا عباد الله
إحنا عرب والنبى عربى وضامننا
ما ينكسرشى يميننا يا عباد الله

حيث يكرر الشاعر عبارة «يا عباد الله» فى نهاية السطور كلها تأكيدا للإيمان والخشوع، لكن هذا لم يمنعه من أن يأتى قبلها بقوافٍ موحدة متكررة تدعيما للموسيقى فى كلمات «آمنا/مطمئنة/منا/يميننا»، أما السطر الرابع الحر فقد أخر فيه الشاعر القافية النونية نفسها إلى نهاية السطر متمثلة فى كلمة «ضامننا»، لتصبح هذه القافية متوافقة مع مثيلتها صوتيا، ومختلفة معها فى الموضع البنائى من السطر الشعرى.

وبهذا تتحقق بنية الموال الخماسى القائمة على المخالفة التقليدية لقافية السطر الرابع، فى إطار التجانس الموسيقى مع القوافى الداخلية المخترعة فى باقى سطور الموال، فهل يوجد بعد هذا تمكن من الصنعة ؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved