كُمُــون

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 16 أغسطس 2019 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

يُوصَف السرُّ بين اثنين بأنه كامِنٌ مَكنون، فإذا خرجَ إلى ثالثٍ؛ ذاع وشاع، ولم يعد بمَأمَن مِن الألسنةِ والأعين، ولا بمَعزل عن القِيل والقَال. هَدَمَ الإفشاءُ حصُونَه، وسَقطَت عنه مَزايا الكُمُون.
***
الحُزنُ الكامِنُ في القلب هو الحُزنُ المُخْتَفي، وإذ قيل عن شخصٍ إنه مُكْتَمِنُ فالمعنى أنه حَزينُ. الحزنُ طاقةٌ يُمكن توظيفُها، والحقُّ أننا نملِك في نفوسِنا طاقاتٍ هائلة لا ندرك وجودَها إذ هي كامِنةٌ ساكِنة؛ لكنها تمثِّل المُحرِّكَ لكُلِّ إنجازٍ يتخَطَّى المُتاحَ ويُحقِّق المَأمول. لا تخرج هذه الطاقةُ بضغطَةِ زرٍّ ولا تُستدعَى بكلمة سرٍّ، بل قد تنبثق تلقائيًا في أوقاتِ الشدَّة، أنَّى تكالبت الرزايا وتداعت النوائِبُ؛ تتوَلَّد قُدرةٌ عُظمى، تعمل عملَها وتصنع ما لم يكُن مُتوقعًا بحال.
***
عادةً ما تكون المشاعر الكامَنة؛ عميقةً وأصيلةً، كَتَمَها حامِلُها في نفسِه ومنعها عن الخُروج؛ وفي تقييدها عشقًا كانت أو مقتًا؛ تصبح مُكثفةً مَضغُوطة.
***
على صفحاتنا التواصلية نُعَرّي كُلَّ كامِن، ونفضح أسَانا وحنقَنا وأحزانَنا، ولا يبقى مِن المَشاعر المُحتدِمة مَستورًا. يدفعنا الواقع المُخزي إلى التفاعُل معه صياحًا، وينقلب الصياحُ بعض المراتِ عَويلًا، نفرغ ذواتَنا مِن طاقةٍ جبَّارة؛ حَريٌّ بها أن تظلَّ كامِنةً إلى أن تواتينا الفرصة وتواتيها؛ فتندلع بأعتى ما يكُون. لا ينجلي الغضبُ الكامِنُ بمرور الزمَن، فإذا نفث عنه صاحبُه وكشفَه في غير أوانِه، وصَبَّه بمنأى عن مَوضِعه المُستحَقّ؛ بَهت وتهاوى.
***

يُعرَف الكُمُون بأنه مَرحلةٌ تمُرُّ بها بعضُ المَخلوقات؛ تحتفظ خلالها بحيويتِها، لكنها لا تبدي نشاطًا خارجيًا مَلحوظًا، تستعد أجهزتُها وتختزن ما يلزمها، ثم يحين الوقتُ فتختفي مِن ظاهر المَشهد، وتلزم المكانَ الذي اختارت في صَمتٍ وهدوء؛ ثقبًا أو وكرًا، تربةً أو مياهًا؛ كلُّ مَخلوق بحسب حجمِه واحتياجه.
***
قد يمُر البشر أيضًا بمرحلةِ كُمون؛ يضعُف أثناءها الإنتاجُ ويتضاءل النشاطُ أو يتوقف تقريبًا، ويبدو المَرءُ لمَن يعرفونه ساكنًا بليدًا. الوجه السعيد الذي قد لا يُدركه الآخرون؛ أن هذه المَرحلةَ فرصةٌ للتأمُّل مِن بعيد حيث لا ضغط يمارسه المُحيطون، ولا التزام بمواعيد وواجبات، ولا اضطرار لمُقابلات ونِقاشات. فترةٌ مِن التحرُّر والتدبُّر، لا تعكس مواتًا وانتهاءً كما تدور المَخاوفُ والظنون؛ بل يعقبُها في عديد الأحيان فَيضٌ غزير.
***
الكُمُون في قواميس اللغة العربية هو الاستِتَار، وكلُّ شيءٍ استَتَر بآخر فقد كَمَن فيه. كَمَنَ أي اخْتَفى، وكَمَن له أي توارى منه واختبأ، وأَكْمَن غيرَه بمعنى أَخفاه. المَكْمَن هو المكان الآمن الذي لا يُفْطَنُ له، ومنه اشتُقَّ الكَمينُ الذي اعتاد الأقدمون أن ينصبُوه في زمَنِ الحربِ، وصار مِن لوازِم أزمِنة سِلمٍ لاحقة.
***
تكمُن الكَواسِر لفريستِها، وتترقَّب اللحظةَ المُناسبة للانقضاض عليها؛ فإذا انكشف مَكمنُها، فَقَدت عنصرَ المفاجأة، وربما خاب تدبيرها، وفشلت في قَنصِ الهدفِ المَطلوب. ثمَّة أكمنةٌ عاريةٌ مُستباحة، جُرّدَت مِن اسمِها ومَعناها، وأخرى مَخفيَّةٌ مَحفوظة؛ لا ينالها أذى ولا يفضحها الراصدون.
***
مَكمَنُ العِلَّة؛ تعبير يشير في أبسط معانيه إلى مَوطِن المَرض الذي يُصيبُ الجسمَ، وقد يرمز بالتوازي إلى أصلِ الداءِ الذي يجتاح مُجتمعاتٍ بأكملِها وينخر عقولَها. في كَوامِن الأشياءِ غموضٌ، وفي الظواهرِ مِنها جلاءٌ ووضوح، وأغلبنا يميل إلى البيِّن، الجليِّ، الذي لا يتطلَّب لرؤيته جهدًا، ولا يلزم لإدراكه إصرارًا وعملًا؛ لذا نبتعد دومًا عن بيتِ الداء، وأصلِ العِلل، وننحو لمُداوةِ العَرَض، فيما الجُرثومةُ رابضةٌ بمَكمَنها؛ تنمو وتترعرَع وتزدهر.
***
المَعنى الكَامِن في عَميقِ النُّصوصِ، المُنغلِق أحيانًا على القارئين؛ يلزمُه مُتمَرِّس لفَكِّ الإشاراتِ والتقاط العلاماتِ، وجعل ما كَمنَ وتوارى؛ قريبًا صريحًا. كهذا يفعل النقاد المُتخَصِّصون، أو فلنقُل أن هذا جزءٌ مما يفعلون؛ فإذا كَمنَ في صوامعِهم الدارسون لأصوله، ومَن عَهِدَهم الناسُ بقواعدِه عارفين؛ غاب النَّقد العلميُّ الجاد عن الساحةِ، وطَفَت على السطحِ فقاقيع لا تلبث أن تزول.
***
لا أشهر مِن أبياتِ حافظ ابراهيم في حديثِ اللغةِ العربيةِ عن نفسها، وعن ابتلائِها بأهلِها إذ يقول: أنا البحرُ في أحشائِه الدرُّ كامِن … فهل ساءَلوا الغوَّاصَ عن صدفاتي … فيا وَيحَكُم أَبلَى وتَبلى مَحاسِني … ومِنكُم وإن عَزَّ الدّواءُ أساتي. الكامِنُ مِن الجواهر يحتاجُ مَن يُقدِّره حقَّ قدرَه، ومَن يصون مكانتَه ويحفظ مَفاتنه، فإن تعذَّر القيامُ بهذا الدور؛ أهلَك الزمانُ ما كان بهيًا وأبلاه، واللغةُ كما يُكرر كلُّ مُهتَمٍّ على مَرِّ العصُور: درةٌ مِن الدُرَر؛ يعلو شأنُها ما علا شأنُ أهلِها، ويدنو بدنوِّ مَراتبِهم واضمحلالِها.
***
أنشَدَ الشاعر القديم: وما أحبُّ إذا أحببتُ مُكتَتِمًا … يُبدي العداوةَ أحيانًا ويخفيها … تظلُّ في قلبِه البَغْضَاءُ كامنةً … فالقلبُ يكتمُها والعينُ تبديها. الاتساق بين الكامِن والمُعلَن سِمَةٌ حَميدة؛ فالمشاعر التي يظُن المرءُ أنه قد حبسها في أحشائِه وأسكت صوتَها، تفضحها انفعالاتُه وتعكِسُها مَلامحُه، فإذا حاول أن يُظهرَ غيرَ ما أبطَنَ، كان في التناقُض ما يسوء بأكثر مِن الإفصاح عن الحقيقة؛ وإن ناءت بالكراهة.
***
النار الكامِنةُ تحت الرمادِ مَصيرها إلى توَهُّجٍ وبَعثٍ جديد؛ والبعثُ يأتي بما هو أفضلَ وأقوى وأنصَع؛ يأتي بما يتجاوز أنصافَ الحلولِ وأشباهَها، يقتلع ما أهلَك التسوُّسُ جذورَه، ويضرِبُ في عمقِ الأرضِ الجذرَ المَنشود.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved