تجربة السفر مع كورونا

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 16 أغسطس 2021 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

فقد السفر أكثر من نصف متعته مختنقا بأقنعة الوجه، محتقنا برائحة الكحول والمطهرات، مكبلا بعشرات الإجراءات والأوراق والفحوص والمسارات والموانع. لم تعد تجربة السفر كما كانت قبل عامين ملاذا للهروب من الروتين اليومى، وسياحة فى كون الله الفسيح. بل هى أقرب إلى عزل اختيارى مهما كانت نتيجة الفحوص سلبية، تنعزل بالمسافر وتقيّد حركته بشكل غير مسبوق من لحظة دخوله صالة السفر، إلى حين عودته وقد اخترقت أدوات اختبار كوفيد أنفه إلى صفحة مخه عدة مرات!
بعض البلاد لن تشعر فيها بكورونا، بل لن تلاحظ أن وباءً قد مر من هناك. ألبانيا ذلك البلد الصغير الهادئ محدود الدخل ثار على «كوفيدــ19» وانتزع شعبه جميع الأقنعة. السياحة مصدر مهم للدخل القومى فى ألبانيا، فهى تمثل وحدها (رغم الظروف) نحو ٤% من الناتج المحلى الإجمالى، الذى يتغذى بشكل كبير على الخدمات بنسبة تزيد عن ٥٤% ثم الزراعة بنسبة تقترب من الربع. يكفى أن تعرف أن عدد السائحين قد تضاعف بنسبة ٧٤٠% بين عامى ٢٠٠٥ و٢٠١٢ لتدرك مدى الاهتمام المتزايد بذلك القطاع الحيوى فى ألبانيا.
تحررت ألبانيا من الاقتصاد الموجّه منذ مطلع تسعينيات القرن الماضى، تاركة خلفها ميراثا من الفقر والتخلف الحضارى صنعته الحقبة الشيوعية كما فعلت بمختلف الدول التى عانقتها.
أقنعة الوجه والتباعد الاجتماعى والتدابير الوقائية ليست مشهدا معتادا فى العاصمة تيرانا، وإن كان هناك حظر للتجول بعد منتصف الليل، لكننى لم أفهم أبدا أى رابط بين ذلك الحظر الصورى وأسباب الوقاية من الجائحة، خاصة مع اكتظاظ الشوارع والمقاهى والفنادق بالسكان والسائحين، بدون أدنى إجراء وقائى! حتى أننى وجدتنى غريبا بين الناس، وقد احتفظت وبعض من السائحين الأمريكيين بعادة ارتداء القناع ولو فى مصعد الفندق.
الغريب أنه بمجرد وصول مطار دبى كان القادمون من ألبانيا معفيين من اختبار كورونا فى المطار، فى الوقت الذى لا يحظى فيه الوافدون من مصر بأى إعفاء! آه لو يعلمون كيف يهان فيروس كورونا فى تيرانا.
•••
على النقيض من ألبانيا كانت دبى شديدة الحرص والتقييد ضد الوباء، فطوال يومين لم أخلع قناع الوجه إلا فى غرفتى بالفندق، لكن مؤشر الإصابات بالفيروس لا يعكس هذا الرهاب من تفشى العدوى. غرامة خلع الكمامة تصل إلى خمسة آلاف درهم! هذا وحده سبب وجيه للالتزام.
فى أى من البلدين بتلك السفرة القصيرة التى استغرقت نحو أسبوع لم يكن أحد يعرف يقينا كيف تدار الأمور، وكيف تعمل الاستثناءات. مثلا البعض يزعم أن اختبار كوفيد مطلوب فى صورة إلكترونية فقط، والبعض يقول: بل يجب طباعته على الورق حتى تقبله سلطات المطار، ولا يمكن التثبت من ذلك إلا عند تحميل الحقائب بالطائرة وأمام موظفى شركات الطيران. تتسبب تلك التفصيلة التافهة فى ارتباك كبير بين صفوف المسافرين، تسود الحيرة وترتفع العقيرة بينهم وبين أطقم الطائرات، ويتهامس موظفو التحميل متسائلين بامتعاض عن إجراء يتغير بصفة مستمرة هل مازال ساريا؟! ما عليك إلا أن تأكل أو تشرب أو تمر بإجراء لتحقيق الشخصية حتى يكون خلع الكمامة منطقيا بل وإجباريا ولو فى قلب الزحام!.
•••
سائق السيارة الأجرة فى ألبانيا له رأى فى كورونا، وله رأى آخر فى معضلة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى. يرى السائق أن كورونا هى خدعة كبرى! تقول له: لكننا نشهد يوميا ضحايا الوباء فى محيط معارفنا، بل وقد طالت مخالبه عددا من مشاهير الفن والسياسة بمختلف الدول. يقر السائق بتلك الحقيقة بل يؤكد أنه وسائر أسرته قد أصيبوا بكورونا، لكنهم جميعا خرجوا منها بلا آثار مزمنة هى إذن كالأنفلونزا العادية. أما عن الاتحاد الأوروبى فلا يرى سائقنا فى فرصة الانضمام إليه سوى مصير اليونان وإيطاليا والغرق فى الديون! سائق التاكسى هو حكيم الشارع الذى ينقل إلى السائح نبض المواطن العادى، يمتص من زبائنه خلاصة الخبرات ثم يقدمها إليك فى طبق غير متجانس المحتويات فى العادة، لكن صاحبنا المثقف ألقى على هذا الطبق من ثقافته ومعرفته ما جعل الحديث معه وجبة مشبعة ممتعة.
•••
للمصريين مكانة خاصة عند الشعب الألبانى، فهم يعرفون الصلة بين محمد على باشا منشئ الأسرة العلوية وصاحب نهضة مصر الحديثة، وبين بلدهم الذى ينتسب إليه هذا الرجل الفذ. كنت أعرف أن «قولة» أو «كافالا» التى ولد بها محمد على هى مدينة يونانية، ولكن أسرته كانت ألبانية بسيطة وهذا يكفى للاحتفاء بتاريخ الرجل، تماما كما تحتفى ألبانيا بالأم «تيريزا» ألبانية النشأة عالمية الأثر، التى يعظمون ذكراها فى الميادين الكبرى والتماثيل والتذكارات.
•••
التبعات الاقتصادية لتدابير السفر فى زمن الكوفيد ١٩ كبيرة ومتباينة. معامل الفحوص وشركات توزيع اللقاح حققت إيرادات كبيرة وأرباحا استثنائية من حركة السفر، لكن تراجع نشاط نقل الركاب بصفة عامة نتيجة لمتطلبات التلقيح وشروطه كانت وبالا على العاملين بقطاعات السياحة والخدمات المرتبطة بتدفق السائحين، ونتج عنها خروج الآلاف من النشاط، وزيادة مصروفات الإعانة والتحويلات الحكومية للتخفيف من آثار الوباء الاقتصادى على المواطنين.
هل كانت نظرة «بوريس جونسون» رئيس وزراء المملكة المتحدة صائبة، حينما دعا مبكرا إلى التعايش مع الجائحة وتكوين مناعة القطيع؟ أم أن تراجعه عن موقفه تحت الضغوط السياسية والشعبية ثم إصابته بالمرض لاحقا كانا بمثابة إقرار بالخطأ؟! تشابهت رؤية «جونسون» الأولى مع سائق التاكسى الألبانى وعامل الفندق الهندى فى الإمارات، ولم تعد الشعوب تتحمل الآثار الاقتصادية لتدابير الوقاية من كورونا. الأزمة هى تحقق الخطر الذى هو محض احتمال، وتدابير الوقاية وقعها أشد ضررا على البعض من الإصابة بالمرض نفسه. العلاج بالإشعاع والكيماويات يقتل بعض المرضى بوتيرة أسرع من السرطان ذاته.
ستكون المملكة المتحدة على موعد مع اختبار كبير لتداعيات تدابير الجائحة مع توقف الإعانات الممنوحة للموظفين وأصحاب الأعمال بنهاية سبتمبر القادم. الإعانات كانت تصل إلى 80% من الدخل المفقود، وتوقّفها يعنى تشرّد الآلاف وتراجع الطلب الكلى بالأسواق، وزيادة نسبة البطالة والركود. العالم اليوم فى حاجة ماسة إلى مؤتمر دولى لاتخاذ موقف موحّد من جائحة كورونا. مصر تستطيع أن تدعو إلى هذا المؤتمر فى مدينة السلام، أجندة المؤتمر يجب أن تكون طبية اقتصادية سياسية، وأن ترفع شعارا عاما لإنقاذ الكوكب من الأمراض، ورؤية استراتيجية للتعامل مع كورونا وغيرها من أوبئة وجوائح لم تعد الكرة الأرضية بمنأى عن تهديداتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved