التيه الفلسطيني بقرارات عربية .. بين إفطار نيتانياهو وابتسامات ميتشيل

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 16 سبتمبر 2009 - 9:50 ص بتوقيت القاهرة

 قدر المواطن العربى أن تطورا خطيرا وغير متوقع قد استدعى أن يستضيف الرئيس حسنى مبارك رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى مائدة الإفطار الرئاسية فى القاهرة، يوم الأحد الماضى..

فليس مألوفا أن يكون مثل هذا المسئول الإسرائيلى ذى التاريخ العنصرى المعروف، وصاحب القرارات المتوالية بالمضى قدما فى بناء المزيد من المستعمرات الإسرائيلية لاستقدام المزيد من المستعمرين من أربع رياح الأرض لاحتلال ما تبقى من الأرض الفلسطينية للسلطة البلا سلطة فى رام الله، إلى مائدة الرئيس المصرى، فى القاهرة وخلال شهر رمضان المبارك.

ثم إن هذا المواطن العربى لم يستسغ «التبرير الإسرائيلى» لهذه الرحلة والقائل أن نتنياهو قد ذهب إلى القاهرة ليطمئنها إلى أن جولة وزير خارجيته ليبرمان، صاحب نظرية تدمير السد العالى، فى عدد من الدول الأفريقية لم تكن تهدف إلى تحريضها ضد مصر، خصوصا فى موضوع إعادة النظر فى تقاسم مياه النيل، ولا إلى إغواء بعض المسئولين الأفارقة بالمساعدات العسكرية والخبرات الفنية ــ إسرائيلية وأمريكية ــ لمقاومة «الإرهاب العربى» الذى يتمثل بالنفوذ المصرى، كما بالنشاط الفلسطينى (وعنوانه حركة حماس) أو بمناصرى «حزب الله» من المغتربين اللبنانيين المتجذرين فى القارة السوداء، والتى أعطوها كثيرا وأعطتهم حصيلة سنى تعبهم الطويلة واجتهادهم فى خدمة طموحات شعوبها، وبالاعتماد على القاهرة منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضى.

ولقد كان طبيعيا أن يربط المواطن العربى بين هذه الاستضافة المصرية لرئيس حكومة «دولة يهود العالم»، فى شهر رمضان المبارك، وبين الجولة الجديدة للموفد الرئاسى الأمريكى ذى الابتسامة البلاستيكية جورج ميتشيل، والتى هدفها الجديد ــ القديم محاولة «إقناع» حكومة نتنياهو ــ ليبرمان بوقف مؤقت (!!) لبناء المستعمرات، أو المزيد منها بذريعة مراعاة التوسع الطبيعى فى احتياجات المستعمرين الجدد المستقدمين من أربع رياح الأرض، وطرد أهلها وأصحابها الفلسطينيين والذين كانوا فيها مذ كانت وطنهم وحياتهم، بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم..

ويمكن، بإحصاء سريع، أن نتبين أنه بين كل رحلة لجورج ميتشيل والثانية إلى المنطقة، بابتسامته البلاستيكية وتصريحاته المكتوبة بالماء، قد ضاع المزيد من نتف الأرض الفلسطينية التى كانت مخصصة ــ نظريا ــ لمشروع «الدولة الفلسطينية» فوق بعض البعض من أرضهم الوطنية.

-2-
ويمكننا، بالتالى، أن نتبين أن عدد المستعمرات الإسرائيلية قد، تزايد، وان أعداد المستعمرين الإسرائيليين داخل مشروع تلك الدويلة، وعلى حساب مساحتها المقطعة الأوصال بالمستعمرات قد تعاظم بحيث صار من المستحيل تصور جلائهم عنها فى مستقبل منظور.

لقد تبدلت طبيعة الموضوع، وبالتالى المهمة، وساد انطباع بأن المزيد من جولات ميتشيل يعنى تزايد عدد المستعمرات والمستعمرين وتناقص مساحة الأرض التى كانت محددة ــ نظريا ــ لمن سوف يستبقى من أهلها الفلسطينيين فيها.
وبديهى الافتراض أن يواجه الإسرائيليون العرب، وليس فقط الفلسطينيين منهم، متى انتهت مهمة ميتشيل، بأنه ليس ثمة ما يستحق التفاوض من أجله، لأن ما كانوا يفاوضون عليه قد «اختفى» بعدما ملأته المستعمرات الإسرائيلية بعشرات ألوف المستعمرين الجدد المستقدمين من أربع جهات الدنيا...

وربما صار الموضوع آنئذ: أين نذهب بفلسطينى الضفة الغربية؟!
وربما صار على الدول العربية المجاورة، وليس على إسرائيل، أن تجيب عن هذا السؤال.. خصوصا وأن الأحياء الجديدة التى زرعها الإسرائيليون فى قلب القدس العربية، إضافة إلى المستوطنات التى أقاموها من حولها، قد ألغت أو تكاد مشروع أن تكون المدينة المقدسة عاصمة «الدولة» التى فى ضمير الغيب.

*****

فى الأخبار، بعض أقطار الخليج العربى قد باشرت، فجأة ودون سابق إنذار، ومن دون إعلان الأسباب، طرد مجاميع من الفلسطينيين، من أبناء غزة تحديدا، من أراضيها (ومعهم بعض المنتمين إلى الطائفة الشيعية فى لبنان)..
وبغض النظر عن الجوانب القانونية والإنسانية لهذا القرار، فإن القراءة السياسية تكشف له أبعادا تتجاوز مشاعر الأخوة وأصول التعامل مع «الوافدين» الذين أعطوا خبراتهم وخلاصة جهودهم وعرقهم للأقطار التى ذهبوا إليها مهندسين وأطباء ومدرسين وإداريين وعمالا مهرة فساهموا فى بنائها وأزهارها وإقامة دولها فوق ما كان رمالا متحركة فصار من جنات عدن..

إن طرد هؤلاء الفلسطينيين ينتقص من عروبة «الدولة» التى قامت بخبراتهم وعرق زنودهم..بل هو يصيب بالشجوب هويتها التى كانت عربية، والتى أخذت تبهت تدريجا مع تعاظم النفوذ الأجنبى فيها إلى حد إملاء القرارات السيادية عليها، فضلا عن تعاظم أعداد الوافدين إليها للعمل فى بنائها من الأجانب(غير العرب) والذين باتوا يشكلون الكثرة العددية من سكانها.

-3-
ليس جديدا أن نتحدث عن الخطر الجدى على هوية هذه البلاد التى كانت وتبقى عربية، خصوصا إذا ما استذكرنا أن هؤلاء الوافدين الأجانب (وأعدادهم بمئات الألوف) قد جاءوا من «دول» بعضها قوى بحيث لا يمكن مواجهته،وبعضها الآخر يستقوى بحماية أجنبية هى ذاتها التى تدعى حماية «عروبة الخليج» فى وجه المطامع الإيرانية.

إن كل دولة عربية قد وجدت صيغتها الخاصة لطرد فلسطين قضية ووطنا وشعبا مشردا من أرضها ومن سياساتها وارتباطاتها وتحالفاتها الجديدة مع «الحامى» الجديد الذى يؤمنها من خوف مقابل احتوائها فى خططه للمنطقة وأهدافه فيها وأولها حماية دولة يهود العالم، إسرائيل، وتأمينها وتحصينها ضد «جيرانها» فى الحاضر والمستقبل.

الملفت أن المواطن العربى يسمع من بعض القادة العرب ما يدعم ويعزز المنطق الإسرائيلى. فالعذر الأساس فى عدم قبول الفلسطينيين فى أى بلد عربى، وفى أقطار الخليج بالذات، أنهم سوف يخلون بالتوازنات داخل مجتمعاتهم.

الإسرائيلى لا يريدهم عنده (فى أرضهم) لأنهم يعكرون الصفاء العنصرى لدولته وهم عاجزون عن حماية وجودهم فيها، ثم إن أشقاءهم العرب لا يريدونهم فى بلادهم ولو كلاجئين لأنهم يخلون بالتوازنات الطائفية أو المذهبية أو العرقية لدولهم!
إن الإسرائيلى لا يريدهم لأنهم يذهبون بصفاء دولة يهود العالم.

والعرب قد قبلوا بمنطق «دولة يهود العالم»، من حيث المبدأ، فتوجب عليهم المساهمة فى قبول «صفائها» العنصرى..
ومشروع الدولة الفلسطينية تضيق أرضه على مدار الساعة، وهو ضيق أصلا على أهلها الذين لم يخرجوا منها.

ثم إن إسرائيل «تهددهم» بطرد المليون ونصف المليون من الفلسطينيين الذين تبقوا فيها فلم يخرجوا من أرضهم التى صارت أرضها ــ وبالتالى فقد تحول هؤلاء الممنوعة عليهم هويتهم الفلسطينية من شهود على حقهم فيها، وشهود على استيلائه بالقوة على أرضهم الوطنية، إلى موضع ابتزاز مفتوح، للدول العربية من حول إسرائيل.. وهى دول
يضيق حكامها بشعوبهم فكيف بشعب إضافى سيأتيهم وقد تعلم فى دولة العدو أن له من الحقوق أكثر من «رعاياهم» فى «دولهم» المستقلة.. عن شعوبها.

ألا يعرف القادة العرب أنهم كلما تخلوا عن حق فلسطينى فى وطنه إنما يتخلون عن بعض سيادتهم على أوطانهم. إنهم لا يفرطون فقط بحقوق مواقعهم التى وصلوا إليها بوسائل عدة ليس بينها الانتخاب، بل هم يفرطون بدولهم ذاتها وشروط سيادتها.

-4-
إنهم يمكنون للخطر. إنهم يتنازلون عن حقوق شعوبهم فى أرضهم.
إنهم يضيفون إلى قوة إسرائيل (والأمريكى) فكيف سيفاوضونها وهم أضعف وهى أقوى وقد أمدوها بمزيد من القوة.
إن ضعفهم وقبل أى عامل آخر سيجعل الأمريكى المنحاز أصلا، أكثر انحيازا.

العجز ولادة لا يكف عن إنجاب المآسى والهزائم الوطنية.

العجز يلد القهر.. ويلد احتقار الذات وتعظيم العدو حتى يصير أسطورى القدرات بما يشل التفكير ويعمق اليأس من احتمال الانتصار عليه. ولكى نبرر الاستسلام فلا بد من تعظيم الخلافات مع الأخ الشقيق.. وهكذا تقوم أسوار الدم وأسوار الكراهية بين العربى والعربى فى مشارق الأرض العربية ومغاربها.

ولاشك أن العجز عن مقاومة إسرائيل قد استولد شعورا عميقا بالمهانة واحتقار الذات.
والقاعدة واضحة: نواجه العدو موحدين أو نختلف من حوله فينتصر على بعضنا بضعفهم ثم ينتصر على مجموعنا بانقساماتنا.

ألم يكن ذلك الدرس الأوضح والأقسى من حرب أكتوبر المجيدة: خرجت مصر من الميدان فاستقوت إسرائيل على سوريا التى غدت وحيدة، فرمتها بكل طاقة القتل والتدمير عندها حتى هزمتها.

بعد ذلك صار سهلا عليها مواجهة الفلسطينيين، لاسيما وأنهم كانوا قد تورطوا أو ورطوا فى حروب أهلية داخل أكثر من قطر عربى ــ الأردن بداية، ثم لبنان حيث كتبت النهاية المأساوية لأبطال المقاومة والفداء الذين غدوا رجال شرطة وجمارك وحرس حدود وأصحاب قرار فى الشئون الداخلية لغيرهم/ صاروا متسلطين على أوطان الغير.. ولقد انتهت التجربة البائسة بخروجهم فاشلين أو عاجزين أو تائهين أو ضائعين عن الطريق إلى وطنهم فى شعاب لبنان.. الجميل.

*****

-5-
إن الكتابة عن فلسطين هى كتابة عن العرب جميعا.

إن حال فلسطين هى الصورة المجسمة لأحوال الأمة التى يمكن قراءتها فى أحوال شعب فلسطين الممزق داخل أرضه المحتلة إلى ثلاثة «شعوب»: فلسطين 1948 ــ فلسطين الضفة الغربية ــ فلسطين غزة..أما خارج أرضه فقد بات أمما شتى لا يوحد بينها إلا الشعور العميق بأنه مستوحد، كأنما لا أهل له،أو أن الكل قد تواطأ مع عدوه ــ عدو الجميع ــ عليه، أى على الجميع.

ومثل هذا الشعور كفيل بتفجير المستقبل العربى جميعا بالعجز، بدل أن يكون حافزا لبناء الغد العربى المرتجى بالوحدة والتضامن فى مواجهة العدو الطامع فى الأرض العربية جميعا.

وكل رمضان وانتم بخير!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved