حتى لا نرى تيرى جونز آخر

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الخميس 16 سبتمبر 2010 - 10:06 ص بتوقيت القاهرة

 خرج علينا القس الأمريكى تيرى جونز مناديا بحرق القرآن، وما كان له أن يخرج بهذه الدعوة الغريبة والشاذة على المجتمع الأمريكى الذى يؤمن بالتعددية والديمقراطية والليبرالية إلا لأسباب عدة، وخروجه بهذا العنف الشديد له عدة دلالات لا تخطئها العين، فقد جرت مياه كثيرة فى النهر منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، والذى أثار مشاعر كراهية شديدة ضد كل ما هو إسلامى ودعوات صارخة للانتقام ورفعت شعارات «لن ننسى.

لن نغفر» ومنذ ذلك الوقت بدأ الحديث وبقوة عن أهمية الحوار مع الآخر المختلف ليس كما كان قبل 11 سبتمبر، لكن أصبح الحوار ضرورة من ضرورات الحياة التى من المستحيل الاستغناء عنها، إلا أنه بعد تسع سنوات من التركيز على الحوار صار الواقع أسوأ، وهنا وفى الواقع الملتبس الذى نعيشه مع الأحداث العجيبة لن نستطيع أن نحمل طرفا واحدا المسئولية، فالمسئولية مشتركة بين الغرب والشرق، بين المسيحيين والمسلمين، بين القادة السياسيين هنا وهناك، وكذلك ــ وهو الأهم ــ بين القادة الدينيين الذين يشكلون الرأى العام للشعوب، وعلينا أن نتذكر أن قضية تيرى جونز والمركز الإسلامى فى جراوند زيرو ومشاعر الكراهية لم ولن تكون قضية أمريكية محلية فقط أى بين الشعب الأمريكى وبعضه البعض، لكنه وبالتأكيد بين مسلمى ومسيحيى العالم، فلا يمكن أن نفصل الأزمة المحلية عن الإطار الأوسع سواء فى موقعها الذى تعيش وتتفاعل فيه أو فى العالم الواسع الذى يحيط بها، ذلك لأن الثورات الحادثة فى الانتقال والاتصال والإلكترونيات.... إلخ، تركت آثارا جانبية غير مسبوقة، بعضها إيجابى والبعض الآخر سلبى. وعلينا هنا أن نسأل أنفسنا: كيف ساهم المسلمون والمسيحيون فى إنتاج مثل هذه الأزمة؟!

أولا ــ لا يوجد إيمان حقيقى بالتعددية:
فرغم الحديث الدائم عن التعددية، فى العالم المسيحى والإسلامى، فإنه ثبت مع التجارب والأحداث التاريخية، رغم الفارق الحضارى والعلمى والثقافى، أنه لا يوجد إيمان حقيقى بها، فكل حضارة مهما ضعفت أو قويت تريد فى ظل العولمة وثورة المعلومات والشبكة العنكبوتية أن تفرض مبادئها وقيمها على العالم كالحق المطلق الذى يجب أن ينصاع له العالمان، وكما نعلم فالتعددية تقتضى التمايز لكن إذا عممنا حضارة واحدة، وغلبنا نسقا ثقافيا واحدا تحت ظلال الكوكبة أو العولمة فإننا نكون قد قضينا على صدق دعمنا للتعددية، لأنه لا تعدد إلا عند الاختلاف. وهذا الاختلاف هو الذى يصنع الثراء، ويضيف تجربة قوم إلى تجربة قوم، وخبرة أمة إلى خبرة أخرى، وبالتالى لابد فى إطار التعددية من المحافظة على الهوية مع الاعتراف بالفروق الثقافية، وعلينا أن نقر ونمارس حق الاختلاف، وحق الآخر فى اختياراته الدينية والسياسية وإلا كنا نتحدث عن تعددية لا نؤمن بها ولا نمارسها على أرض الواقع.

ثانيا ــ تهميش تأسيس المجتمع العالمى على القيم المشتركة:
لقد ثبت أنه مهما اختلفت الحضارات فإن بينها أصولا مشتركة منها الأصل الواحد للأديان سواء كانت سماوية أو غير سماوية، فكل الأديان تمتلك كتبا مقدسة بها قيم ومبادئ إنسانية متشابهة إلى حد كبير، فالبوذية والكونفوشيوسية والشنتو ديانة اليابان مع المسيحية والإسلام واليهودية، مع ــ وهذا غريب ــ الأديان الأفريقية وجزر الكاريبى، كلها بلا استثناء تتفق على الخطوط العريضة للقيم، والثواب والعقاب وسواء فى الأرض أو من الآلهة بعد الموت...إلخ.
والقيم المشتركة التى تجمع كل هؤلاء على اختلاف تبايناتهم هى القيم الإنسانية العليا مثل العدل والشجاعة والشرف والحب... إلخ. وهذه القيم يضعف وجودها فى حضارة ويقوى فى حضارة أخرى، وقد يقوم النظام التربوى عند قوم على بعض هذه القيم دون سواها، وقد يتغير ترتيب القيم أو ما نسميه «سلم القيم» من حضارة إلى أخرى لكن يبقى أن احترامها مترسخ فى ضمائر البشر جميعا فحيثما صادفها إنسان أعجبته وأكبر من شأن حملها وذلك لأنها قيم إنسانية عامة، ولكن عدم التركيز على هذه القيم كقيم مشتركة بين الأديان والثقافات أفرزت تيرى جونز وأشباهه من المسيحيين أو المسلمين أو اليهود أو من أى ديانة وضعية مهما كانت.

ثالثا ــ الزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة:

والسؤال ما هى الحقيقة المطلقة؟ والإجابة: الله. لكن المشكلة هنا فى تعبير «امتلاك» فمن من البشر يمتلك الحقيقة المطلقة؟ لقد أخبرنا الأنبياء والرسل عن أن الله لم يره أحد قط لكنهم وبواسطة الوحى قدموا لنا معلومات حقيقية عنه، فالله لا يرى بالعيون البشرية، والإنسان نسبى بحسب تكوينه، فعقله النسبى لا يستوعب أى مطلقات لكنه يؤمن بها، رغم أنها فوق العقل، لذلك نجد أن الإيمان بالله المطلق يختلف من أتباع دين إلى آخر، فالله واحد مطلق لا شريك له، لكن تفسير هذه الكلمات يختلف، ولأن هذا هكذا أصبح ملاك الحقيقة المطلقة لا يرون حقا عند الآخرين ويريدون أن يفرضوا ما يؤمنون به على العالم أجمع بصورة أو أخرى، ذلك بتسفيه إيمان الآخر المختلف، من هنا جاء فقه الضرورة ولاهوت الواقع، فعندما تصطدم عادة ما أو فرض دينى مثل الحجاب أو طريقة الملبس أو الصوم... إلخ، فعلى أتباع الأقلية أن يخضعوا للحضارة الأخرى مؤقتا حتى تزول مثل هذه الظروف، وهذا يتم أيضا فى المجتمعات الإسلامية التى بها أجانب كأقليات وجاليات، وهذا الفكر يضع حواجز ضخمة فى طريق قبول الآخر، ذلك لأن تنازله عن بعض عاداته وتقاليده وثقافاته ليس عن طيب خاطر بقدر ما هو محاولة خارجية للاندماج مع الصلاة المستمرة أن يغفر الله له ما يفعل حتى يأتى اليوم الذى يتحول مجتمعه إلى ديانة الأقلية وعندئذ يسترد عاداته وتقاليده... إلخ، والقضية هنا هى الاحتياج إلى فقه ولاهوت معاصر لا يسمى فقه الواقع أو لاهوت الضرورة، لكن يقدم تفسيرا يريح ضمير الفرد، حيث يتمسك الفرد بإيمانه حتى لو تنازل عن بعض عاداته وتقاليده دون شعور بالذنب، لكن فقه الواقع ولاهوت الضرورة هو الذى يفرز هؤلاء المتطرفين والذين يعيشون حياة مزدوجة بين المجتمع العام الذى يمارسون فيه أعمالهم ونشاطاتهم، وبين مجتمعهم الخاص المغلق عليهم وعلى نظائرهم.

رابعا ــ غياب الإنصاف المتبادل:

كما أننا نريد من الغرب أن ينصف حضارتنا معترفا بعراقتها وبما كان لنا فى الماضى حيث تأثر الغرب الأوروبى بثقافة وعلوم وفنون العرب والمسلمين فى الوقت الذى كانت فيه أوروبا تغرق فى الظلام الدينى والعلمى والثقافى، وقد اقتبس بعض قادة الإصلاح فى القرون الوسطى من مؤلفاتهم وهكذا نحتاج نحن أيضا أن نقوم بإنصاف الحضارة الغربية، وعلينا أن نثق فى أن الحضارة الإنسانية ما كان لها أن تنتهى قيادتها إلى الغرب لولا أن قيما عظيمة قد سادت عندهم، وإن ترويجهم لقيم الصدق والعدل والعمل، وكل هذا جعل بلادهم تستقبل المطرود والضعيف والفقير. وهكذا بالإنصاف المتبادل يحدث التلاقى الحقيقى.

خامسا ــ الوقوع فى فخ التعميم:

من الخير للشرق لمسلميه ومسيحييه أن يذكر أن الغرب ليس كله سواء، فليس الغرب هو تيرى جونس، أو صاحب الصور المسيئة، ففى الغرب مفكرون منصفون ومدافعون أقوياء عن حقوق الضعفاء، وعن المسلمين والمسيحيين الشرقيين، وما أمر التظاهرات الشبابية ضد العولمة وضد لقاء الثمانية الكبار كلما اجتمعوا بخافٍ، وقد كان من المفكرين المدافعين عن قيم العدل نعوم تشومسكى، وروبرت فيسك، وجون سييزيتو، وهناك كنائس كثيرة فى الغرب وأمريكا تساند المسلمين وبقوة بل وتقف ضد سياسات إسرائيل من هدم بيوت الفلسطينيين وقتل المدنيين، وأشير هنا إلى قرار الكنيسة الإنجيلية المشيخية بسحب استثماراتها من شركة كاتر بيلر وإعطاء الشركة فرصة أخيرة للالتزام بعدم المشاركة باستخدام معداتها فى هدم مساكن المدنيين الفلسطينيين، وقد صدر القرار فى المحفل العام للكنيسة من 1 ــ 10 يوليو 2010، وأشير أيضا إلى البيان الذى وقعه مجموعة من أساتذة الجامعات والكتاب والمفكرين والفنانين الأمريكيين يتبرأون فيه من دم السياسة العسكرية الأمريكية، وكذلك من الخير للغرب أن يذكر أن المسلمين ليس كلهم سواء، فمجموعة 11 سبتمبر لا تعبر عن كل المسلمين فى العالم، ولا الجماعات الإسلامية المتطرفة.

لتكن هذه الأزمة إنذارا لنا وللعالم، وتقييمنا الموضوعى للأزمة وطريقة الخروج منها سوف يعطى مؤشرا صادقا لكيف يكون عليه مستقبلنا ومستقبل أولادنا والعالم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved