عن الإرهاب الحقيقى.. والمزعوم

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الثلاثاء 16 سبتمبر 2014 - 8:55 ص بتوقيت القاهرة

كان من الطبيعى أن يقل الحديث شيئا فشيئا عن أحداث 11 سبتمبر 2001 مع مرور الزمن، ولكن يلاحظ أن الحديث عن «الإرهاب»، بوجه عام، لم يتناقص، بل بالعكس، أصبح الإرهاب هو الموضوع الذى يحوز أكبر قدر من اهتمام وسائل الإعلام، بل وأكثر من ذلك، أصبح كل منا محلا للشك والارتياب، وأصبحنا جميعا نعامل، أكثر فأكثر، «كإرهابيين محتملين». يظهر هذا مثلا فى طريقة التعامل معنا لدى دخولنا إلى كثير من الأماكن العامة أو الفنادق الكبيرة، حيث أصبحنا، أكثر فأكثر، نتعرض للتفتيش، وقد تستخدم الكلاب المتوحشة لتشمم سياراتنا قبل السماح لنا بالمرور. ولكن هذه الطريقة فى التعامل تظهر على الأخص فى المطارات، حيث تطلب منا أشياء مهينة، كرفع الذراعين، وقبول أن يتحسس موظف الأمن أجسامنا، وخلع الأحذية والجاكيتات وربما الأحزمة أيضا، والتخلى عن زجاجات الماء لاحتمال استخدام الماء فى صنع مواد متفجرة داخل الطائرة...الخ.

هذا التطور فى معاملة الناس العاديين كإرهابيين متنكرين، حتى كاد يعتاده الناس ويقبلونه وكأنه من طبائع الأمور، اقترن بزيادة الأعمال الإرهابية الحقيقية التى تقوم بها دول أو أشخاص هم أنفسهم الذين يوجهون إلينا هذا الاتهام. إن ما حدث مثلا خلال الأعوام الثلاثة الماضية من تدمير لليبيا، على أيدى دول حلف الناتو، وتدمير للعراق، على أيدى الولايات المتحدة وحلفائها، وما حدث ومازال يحدث فى سوريا والعراق على أيدى ما يسمى بجماعة (داعش)، والذى تتخذ إزاءه حكومات هذه الدول التى تتزعم اتهام الآخرين بالإرهاب، مواقف سلبية أو مائعة على الأقل، مما يزيد من الشك فى انهم يلعبون دورا حاسما فيه، كل هذا هو من قبيل الإرهاب الحقيقى الذى لا يمكن منعه للأسف بأعمال التفتيش أو الاعتقال، إذ إن القائمين به دول محترمة تشتهر بالسهر على حقوق الإنسان وبالدفاع عن الديمقراطية.

•••

هناك نكتة قديمة (ترجع فيما أظن إلى غزو أمريكا للعراق فى 2003)، ولكنها لازالت ملائمة تماما لما نحن فيه الآن، عن الفرق بين الإرهاب كعمل غير مشروع، والحرب كعمل مشروع، إذ تقول ان الحرب المشروعة تتمثل فى ضرب العدو من فوق (كضرب أمريكا مثلا لبغداد لإسقاط صدام حسين)، أما الإرهاب فهو ضرب العدو من الجنب، كاختراق الطائرتين المحملتين بإرهابيين، للبرجين الشهيرين فى نيويورك فى 11 سبتمبر 2011.

هذه النكتة تشير بالطبع إلى سخافة لفظ «الإرهاب» وخلوه من أى معنى مفيد. فهى كلمة لا تعنى أكثر من «التخويف»، ولكنها لا تفصح عن أى شىء فيما يتعلق بالغرض من هذا التخويف أو حتى وسيلته، أو عن جنسيته وطبيعة الشخص الذى يقوم به (سوى أنه يخيف الناس طبعا).

لم يكن لفظ «الإرهاب» يستخدم كثيرا فى أيام الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعى والرأسمالى، حين شاع الحديث عن الخطر الشيوعى، وكثر الكلام فى الغرب عن أن الموت ربما كان أفضل من الخضوع للشيوعية (brtter dead than red) أو العكس، أى أن انتصار الشيوعية أقل سوءا على الأقل من الموت (better red than dead). ولكنى الآن (وبعد ربع قرن من سقوط الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة) أرى علاقة قوية بين التخويف من الخطر الشيوعى، الذى شاع فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، وبين التخويف من الإرهاب، الذى بدأ يشيع بمجرد انتهاء ذلك الخطر. إذ يبدو لى أن هناك شيئا مصطنعا فى الحالتين، بمعنى أن كلا منهما يتضمن المبالغة فى تصوير الخطر، بل وربما اختلاق خطر موهوم اختلاقا، كما يبدو لى إن الهدف فى الحالتين قد يكون واحدا، يتحقق بمجرد إشاعة الخوف بين الناس.

لم يكن الأمر بهذا الوضوح عندما كان يجرى تخويفنا من الشيوعية. إنى أذكر ان الزعيم السوفييتى خروتشوف قال مرة، وهو يرد على مزاعم الغرب بأن الشيوعية تهدد باكتساح العالم «نحن أيها السادة لا نأكل الأطفال»! مشيرا إلى الصورة التى كانت تدأب وسائل الإعلام فى الغرب على رسمها للروس وزعمائهم. توقفت هذه العادة بمجرد سقوط حائط برلين فى 1989، وسقوط دولة شيوعية بعد أخرى، وتفكك الاتحاد السوفييتى إلى عدة دول تطبق هى أيضا نظام السوق الحرة، وظهر أن الروس أطيب قلبا وأظرف مما كانوا يصدرون لنا، ولكن ظهر أيضا أن الحاجة إلى تخويف الناس لازالت مستمرة، ومن ثم الحاجة إلى اختراع خطر جديد.

هذا الخطر الجديد هو «الإرهاب»، ولكنه يختلف عن الخطر الشيوعى فى أنه لا يعرف له مبدأ محدد، أو زعماء مشهورون، أو كتب قديمة أو حديثة، بل ولا يعرف له هدف أو قضية واضحة ولا موطن محدد. فأهدافه متغيرة لا يفصح عنها، وقضاياه، إذا ذكرت على الإطلاق، متعددة قد يتعارض بعضها مع البعض الآخر، ومن الممكن أن يظهر الإرهاب فى أى مكان فى العالم ثم يختفى ليظهر فى مكان آخر. (وعندما ينتهى الغرض منه يلقى بجثة زعيمه فى المحيط، حتى تضيع أى وسيلة للتحقق من أن الذى تم قتله هو حقا ذلك الزعيم الإرهابى دون غيره). وهو لا يترك أبدا وراءه ورقة ليخبرنا فيها بسبب الإرهاب وهدف، بل إنه لا يبدو وكأنه يحقق أى هدف على الإطلاق أو أى مصلحة لمن يقوم به، وإن كان يحقق بالضرورة مصالح مهمة لمن اخترعوا فكرة الإرهاب أصلا.

•••

شيئا فشيئا بدأت أدرك أن خطر (الإرهاب) هو البديل الجديد، فى العصر الذى نعيش فيه، للخطر الشيوعى. وكما ان التهديد بالخطر الشيوعى حقق مصالح متعددة للولايات المتحدة، عن طريق تبرير التدخل فى دولة بعد أخرى من دول العالم الثالث، بل وفى دول أوروبا الغربية نفسها، وفى إنتاج المزيد من الأسلحة وبيعها لحكومات بعضها لا يستخدم السلاح أصلا، وكذلك لتبرير المعونات العسكرية والاقتصادية التى تهدف إلى أشياء أخرى غير تنمية البلاد الفقيرة، فإن التهديد بخطر الإرهاب استخدم ولايزال يستخدم لتبرير مصالح مماثلة، من احتلال العراق، إلى ضرب ليبيا، إلى تقسيم بلاد يراد تقسيمها لسبب أو آخر (لم يتضح تماما بعد) فضلا بالطبع عن استمرار إنتاج السلاح وبيعه.

لتحقيق هذه المصالح لابد من إشاعة الخوف، إن لم يكن بإرهاب حقيقى فعلى الأقل بإرهاب مزعوم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved